لم يُلمح لي من قَبِل أن مخزون عطائه قد أوشك على النفاد، وأن مسيرة نضالاته قد أوشكت هي الأخرى على الانتهاء؛ أو أن يداه ستُكبل الى الأبد ولن تقاوم، أو أن قلبه الكبير اقترب من السكون الأبدي. لا لم يلمح لي بشيء من ذلك البتة، مع اننا صديقان. لذا فقد حل خبر استشهاده الصاعقة فوق رأسي، فلم أصدق بأنه غادرنا.
استشهد زياد وهو يقاوم جدار الفصل العنصري، وغول الاستيطان، ويدافع عن الأرض وهويتها الفلسطينية، ويواجه الاحتلال وعدوانه وهمجيته، ويقاوم من أجل حرية شعبه واستقلال وطنه الفلسطيني، بصدره العاري، وكلمته الصادقة. فبأي دمع أبكيه!
بأي دمع أبكيك يا أخي المناضل، وبأي الحروف أرثيك يا صديقي العزيز، وبأي الكلمات أوفيك حقك، وقد ذقت مرارة السجن لعشر سنوات!..
أي العبارات يا زياد يمكنها أن تعطيك حقك، يا زميلي في هيئة شؤون الأسرى والمحررين!. لسنوات طوال، ونحن نخوض المشوار سوياً، مدافعين عن فلسطين وأسرى فلسطين، فكنت خير من مثلهم. وأشهد أن بعض الأوروبيين قد ذُرفت عيونهم دمعاً، حين كانوا يسمعونك تعرض معاناة الأسرى والمعتقلين، خلال زيارتنا معا لبعض العواصم الأوروبية.
زياد أبو عين، اسم معروف لمناضل فلسطيني عريق. قائد فتحاوي جريء، دوماً هو في مواقع الاشتباك. أسير سابق في السجون الأمريكية والإسرائيلية، قدر له الله أن يختتمها بالشهادة، شهادة التضحية في سبيل الوطن.
منذ أن جمعتنا وزارة الأسرى والمحررين، في أوائل العقد الماضي، تعاملت مع زياد كثيرا، وتهاتفنا مرارا، وتحدثنا في هموم الوطن والمواطن والأسرى مطولا، والتقيت به مرات عدة خارج حدود الوطن وفي عواصم عربية واوروبية عديدة؛ سافرنا معا الى فرنسا والنرويج وهولندا ومكثنا هناك ايام عديدة، والتقيته في مناسبات اخرى في القاهرة وبيروت والجزائر، وآخر تلك اللقاءات كانت في العاصمة العراقية بغداد، خلال مشاركتنا في المؤتمر الدولي الذي نظمته جامعة الدول العربية في 12ديسمبر 2012.
اتفقت مع زياد كثيرا، واختلفت مرارا، فلم يفسد خلافنا الود بيننا، فترسخت بيننا علاقات أخوية صادقة. لم تكن تربطني به علاقة قبل عملي في هيئة شؤون الأسرى والمحررين (وزارة الأسرى سابقا). ولم يسبق لي أن سمعت باسمه قبل الثاني عشر من أغسطس 1979، حين تمكنت أجهزة الأمن الأمريكية من اعتقاله، ومن ثم احتجازه في سجن شيكاغو، بناء على طلب إسرائيلي. ولقد ذاع صيته حين استجابت المحكمة الأمريكية لطلب (إسرائيل) فسلمته لها، في 28 ديسمبر من نفس العام. ولقد سلطت عليه الأضواء أكثر في 12 ديسمبر 1981، حين اقتاده رجال المخابرات الأمريكية، من سجن شيكاغو مكبلاً، إلى مطار عسكري لتنقله الطائرة إلى (إسرائيل).
هكذا انتقل زياد من سجن إلى سجن، فكان أول فلسطيني يسلم علانية ـ بقرار من القضاء ـ إلى دولة الاحتلال. وتحولت قضيته إلى قضية عالمية، فاتسع بها التضامن الإعلامي مع قضية الأسرى الفلسطينيين، على كافة المستويات.
بعد عام ونيف كان زياد على موعد مع الحرية، إذ أدرج اسمه ضمن المفرج عنهم في إطار صفقة التبادل عام 1983. إلا أن سلطات الاحتلال تحايلت على الصفقة، ونجحت في اعادته الى غرف سجونها.
لهذا كان على زياد أن ينتظر حتى العام 1985، لتشمله صفقة التبادل الشهيرة، فخرج من سجنه رغم أنف الاحتلال، وعاد إلى أهله في رام الله. لم تطول بزياد الاستراحة، فانتقل من جديد إلى ساحة النضال، وأخذ يمارس واجبه في المقاومة. فأعيد اعتقاله مرات ومرات، ليمضي ما مجموعه أكثر من عشر سنوات.
وكان من الطبيعي أن يتبوأ زياد وكنيته أبا طارق، بعد أوسلو، المناصب القيادية العديدة داخل حركة فتح، آخرها عضوية المجلس الثوري. كما تبوأ منصب وكيل وزارة الأسرى والمحررين لسنوات طويلة، ثم رئيس هيئة مقاومة الجدار والاستيطان بدرجة وزير. ومنذ المنصب الأخير تكثفت جهود زياد في مواجهة الجدار، فأحدث حراكا غير مسبوق.
ضاق الاحتلال بمثابرة زياد على قضيته الجديدة، فقتله بدم بارد، في مثل هذا اليوم، العاشر من كانون أول/ديسمبر عام 2014، في نفس اليوم الذي يحيي فيه العالم ذكرى صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ذاك الاعلان الذي يؤكد على احترام حق الإنسان في الحياة وبالعيش بحرية وكرامة. فيما دولة الاحتلال تعتبر نفسها دولة فوق القانون، وقد ضربت بعنف حقوق الانسان الفلسطيني بعرض الحائط. دون حسيب ولا رقيب، ودون أي رادع. وما زال ذلك اليوم الذي تُحاسب فيه دولة الاحتلال على انتهاكاتها وجرائمها بحق الفلسطينيين ينتظر القدوم.
*الكاتب: عبد الناصر فروانة، اسير محرر ومختص بشؤون الأسرى والمحررين، وعضو المجلس الوطني الفلسطيني، ورئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى والمحررين وعضو اللجنة المكلفة لإدارة شؤون الهيئة بقطاع غزة، وله موقع شخصي مختص بشؤون الأسرى اسمه (فلسطين خلف القضبان).