لست وحدي مَن عاصر انتفاضة الحجارة، أو الانتفاضة الشعبية، أو الانتفاضة الكبرى التي اندلعت من مخيم جباليا شمالي قطاع غزة في الثامن من كانون الأول/ديسمبر 1987. ولست وحدي مَن انخرط في فعالياتها، ولم أكن بمفردي في ساحة الاشتباك والمواجهة أُقاوم المُحتل الإسرائيلي. كما لم يُسجَّل أنني كنت المعتقل الأول في تلك الانتفاضة المجيدة؛ فحين اقتحموا بيتي في حي "بني عامر" شرقي مدينة غزة، بعد شهرين من اندلاع الانتفاضة، وقيدوا يداي بالأصفاد، ووضعوا العصبة على عيناي، واقتادوني إلى معتقل أنصار2 غربي المدينة، استطعت أن أرى في الخيام آلاف الفلسطينيين الذين سبقوني إلى هناك رغماً عنهم. وبمجرد أن زجوا بي في ساحة التحقيق وأدخلوني بين جدران زنازين التعذيب، تمكنت من سماع صدى أصوات آخرين وصرخات وآهات مُعذّبين كُثر، فأدركت أنني لست بمفردي أُعذَّب، حينها شَعرت بالأُنْس رغم أجواء الرعب التي كانت تُخيم على المكان.
بمرور الوقت، وتعالي صرخات الألم وأنين الوجع، نجحت في التعرف على عدد من المعتقلين الذين كانوا يجاورونني في ساحة التعذيب، ويقاسمونني أحياناً ما كنا نُسميها "حفلة الضرب"، حين يتكالب علينا المحققون ويبدأون بالضرب العشوائي من دون رحمة. وعلى الرغم من أجواء التعذيب المرعبة، فإن كل واحد منا نجح في أن يُسمِع صوته للآخر، وأن يشد من أزر الآخرين، فكلمات التحفيز والحماسة والصمود ورفع الهمم هي التي كانت تصدح في الميدان، فمنحت كل أسير منا قوة جديدة لتحمُّل ضغوط الواقع، وساهمت في تشكيل حماية لمجموعنا أمام أي شكل من "الانهيار"، أو حتى "الاعتراف الجزئي". وبالفعل، خرجنا بعد أيام سوياً إلى أقسام الخيام، وقد كنا منهكين جداً جسدياً، في إثر ما تعرضنا له من تعذيب وما لحق بنا من أذى، إلا أننا كنا نعيش نشوة الانتصار، لكن يبدو أنه لم يرق لهم أن نكون كذلك، فأعادونا ثانية، بعد أيام معدودة، إلى ساحة التحقيق، لنخوض جولة جديدة من التعذيب استمرت بضعة أيام، وقد كنا أكثر صلابة وإصراراً، فعدنا إلى الأقسام من جديد والسعادة تغمرنا وتُنسينا الوجع، بعد أن كررنا التجربة وقهرنا السجّان. كانت هذه تجربتي الأولى مع الاعتقال خلال انتفاضة الحجارة، وهي التي أتاحت لي التعرف إلى هؤلاء، إخوة ورفاق، فصرنا أصدقاء، والتقينا في ساحة النضال كثيراً، وجمعنا السجن ثانية في سنوات لاحقة من الانتفاضة.
حين اندلعت انتفاضة الحجارة، كنت حينها أسكن في بيتنا العتيق، الواقع خلف مدرسة الزهراء الثانوية للبنات، في حي "بني عامر" في محلة الدرج، شرقي مدينة غزة هاشم، وهو الحي ذاته الذي كان يقطنه الشهيد القائد خليل الوزير (أبو جهاد)، مهندس الانتفاضة. وقد أمضيت سنوات طفولتي وشبابي، وعاصرت أحداث الانتفاضة بين أزقة الحي التي تفوح بعبق التاريخ، واعتُقلت من هناك أربع مرات، بعد اقتحام البيت ليلاً، فأضحى لنا في كل مكان هناك ذكرى وحكاية، ومع كل جار قصة ورواية. عشنا سوياً، وناضلنا معا،ً وتقاسمنا الألم والفرح، واعتُقلنا في أقسام وسجون متجاورة، كنا أكثر من مجرد جيران.
لقد شهدت الانتفاضة الكثير من القمع والتنكيل لمواجهة راشقي الحجارة، وانتهج الاحتلال سياسة فرض حظر التجوال وإغلاق مداخل المدن والمخيمات والأحياء الشعبية. كما شاعت سياسة "تكسير العظام" التي اتبعها جنود الاحتلال. هذا بالإضافة إلى اعتماد الاعتقال نهجاً وسياسة، فشنّ حملات اعتقال واسعة، منظمة وعشوائية، وصعّدت من سياسة "الاعتقال الإداري"، رافقها تعذيب شديد راح ضحيته 42 أسيراً، أولهم خضر الترزي من غزة، وهو مسيحي، وذلك بتاريخ 9 شباط/فبراير 1988. وبمرور الأيام واتساع الانتفاضة، جماهيرياً وجغرافياً، تصاعدت حدة القمع، واتسعت دائرة الاعتقالات في محاولة يائسة للقضاء على روح المقاومة وردع الشعب الفلسطيني ووأد الانتفاضة الشعبية، ليعيد إلى الأذهان ما كان يحدث عقب احتلال بقية الأراضي الفلسطينية عام 1967 وتصاعُد وتيرة المقاومة، وهو ما أدى إلى ارتفاع مطّرد في أعداد المعتقلين الفلسطينيين الذين فاق عددهم 200 ألف حالة اعتقال بين نهاية سنة 1987 ومنتصف سنة 1994، حتى اكتظت السجون والمعتقلات ومراكز التوقيف الإسرائيلية بهم، الأمر الذي دفع الاحتلال إلى استحداث سجون جديدة لاستيعاب الأعداد الهائلة، أبرزها سجن النقب في صحراء النقب جنوباً، وسجن عوفر غربي رام الله وسط البلد، اللذان شُيدا بالخيام.
كانت أوضاع السجون بدايةً سيئة جداً وبلا خدمات أو إمكانيات أو ملابس، ومن دون السماح للأهالي بالزيارات، ولا سيما في سجن النقب. كنا نغوص في الطين في الشتاء، وننام على أخشاب تشبه الأسرّة، ونقضي الحاجة في حمام من الزينكو، وفي بعض الأقسام كان هو ذاته المكان المخصص للاستحمام. وبمرور الوقت، تحسنت الأوضاع نسبياً، بينما اشتد التعذيب قساوة، وأصبح أكثر تنظيماً ومنهجية، بهدف انتزاع اعترافات والحصول على معلومات تقودهم للوصول إلى قادة الانتفاضة وعناصرها. وقد اعتُقلت للمرة الثانية والثالثة إدارياً، بينما تعرضت للاعتقال للمرة الرابعة أواخر سنة 1989، وأنا أكثر إصراراً على التحدي والصمود، وخضت تجربة تعذيب جديدة استمرت 100 يوم متواصلة في أقبية التحقيق في سجن غزة المركزي "السرايا"، وما كنا نُطلق عليه اسم "المسلخ". هذه المرحلة كانت الأقسى بشهادة كل مَن مرّ بتجارب تحقيق سابقة، وكنت شاهداً على استشهاد اثنين من الأسرى الفلسطينيين، هما جمال أبو شرخ وخالد الشيخ علي، في سجن غزة، اللذان لم يكونا آخر مَن استشهد في سجون الاحتلال جرّاء التعذيب، بعد أن التحق بهما كثيرون من الأسرى شهداء. لقد كان التعذيب قاسياً ومميتاً، وقد عشت وعاش الآخرون تجارب تعذيب لا يمكن تخيلها أو تصورها، واستمعت إلى شهادات عديدة روت فظائع الموت، من أناس قُدِّر لهم الخروج من السجن أحياء، فكان حديثهم يفيض بالألم والمرارة.
وبحلول الذكرى الخامسة والثلاثين لاندلاع "انتفاضة الحجارة"، نشعر بالفخر والاعتزاز، ليس لأننا شهدنا انطلاقتها وعاصرنا مراحلها المختلفة، وانخرطنا في فعالياتها وأنشطتها المتعددة فقط، أو لِما سجلناه من تجارب شخصية في ساحة المواجهة وبين جدران السجون فحسب، وإنما لأن تلك الانتفاضة تميزت بكثير من السمات والخصائص التي جعلت منها انتفاضة مختلفة عن غيرها، ولعل أكثر ما ميزها، الشمولية والالتفاف الجماهيري والطابع الشعبي، حيث شاركت جميع فئات المجتمع الفلسطيني من دون تمييز على أساس طبقي أو حزبي، والتعاضد الاجتماعي والتكافل الأسري ووحدة الصف الوطني الفلسطيني والقيادة الوطنية الموحدة والحاضنة الاجتماعية والشعبية هي التي شكّلت الحماية الحقيقية لها. فضلاً عن أن سلاحها البسيط المتمثل في القلم والحجر والمقلاع، وفي بعض الأحيان البلطة والسكين والمولوتوف، كان في متناول الجميع، صغاراً وشباناً، رجالاً وشيوخاً، فتيات ونساء. بينما تحولت الجدران إلى لوحات إعلانية لكتابة الشعارات الوطنية ووضع الملصقات وتعميم الفعاليات وأيام الإضراب وإيصال تعليمات القيادة الموحدة إلى الشارع من خلال نشطاء ملثمين. الأمر الذي ساهم في ديمومتها واتساع رقعتها وتصاعُد فعلها وتأثيرها، فشكّلت عبئاً ثقيلاً على الاحتلال وأعوانه، وألحقت بهم خسائر فادحة.
اليوم، وعلى الرغم من تطور وسائل النضال، فإن الأدوات الكفاحية والمظاهر الشعبية التي كانت سائدة في تلك المرحلة، لا تزال تلقى حضوراً في ساحة المواجهة مع الاحتلال، وما زالت انتفاضة 1987 تُلهم الفلسطينيين والعرب وكل الثائرين في العالم، فنزداد اعتزازاً بما تركته الانتفاضة الشعبية الكبرى من أثر سياسي كبير وتراث كفاحي عريق وإرث عظيم.