يمثل العمل من أجل إيصال الرواية الحقيقية للشعب الفلسطيني أحد أوجه النضال الفلسطيني الرئيسية.
ويرتبط ذلك بأن الهجمة الصهيونية-الإسرائيلية على فلسطين ارتكزت، إلى حد كبير، على ترويج الرواية الصهيونية، التي أصبحت وسيلة هامة لتجنيد الدعم المالي، والعسكري، والبشري، والسياسي للعصابات الصهيونية، ومن ثم لإسرائيل.
تستند الرواية الإسرائيلية إلى ثلاثة أساطير خداع كبيرة، وإلى سردية مضلَلة للواقع القائم، وإلى مصفوفة مصطلحات تحريفية للحقائق.
الأسطورة الأولى، انبثقت من التشويه الميثولوجي الذي تتبناه الرؤية الدينية الإنجيلية والأوساط البروتستانتية الإنجليزية المتطرفة، أن فلسطين هي أرض الميعاد التي منحها الله للشعب اليهودي المختار، والذي يجب أن يتجمع فيها من كل أنحاء العالم ليأتي المسيح المنتظر، وتقوم القيامة. وهي رؤية، وللمفارقة، جوهرها لا سامي، لأن حصيلتها إبادة من يرفض التحول عن الدين اليهودي، لكن هذه الأسطورة تحمل في طياتها أسطورة أخرى بأن فلسطين كانت أرضاً بلا شعب لشعب بلا أرض، في تنكر كامل لوجود الشعب الفلسطيني الذي تمتد جذوره لأكثر من أربعة آلاف عام على أرض فلسطين. وفي التطبيق العملي تغذت تلك الأسطورة بنتائج جريمة "الهولوكوست" التي ارتكبتها النازية الألمانية، و حملات العداء للسامية التي تكررت في أوروبا على مدار قرون، لتبرير تنفيذ التطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني (نكبة عام 1948)، وتهجير الفلسطينيين وإحلال المهاجرين اليهود في بيوتهم، وعلى أرضهم، وفي أماكن قراهم وبلداتهم الخمسمائة التي دمرت.
وكأن جريمة النازيين التي ارتكبوها في الهولوكوست امتدت لتشمل الفلسطينيين الذين أصبحوا كما قال المفكر إدوارد سعيد "ضحايا الضحايا".
الأسطورة الثانية، أن الأقلية الصهيونية الصغيرة انتصرت في حرب 1948 على خمسة جيوش عربية معتدية، علماً أن السبب الحقيقي لاندلاع تلك الحرب كانت المجازر التي شنتها العصابات الصهيونية ضد الفلسطينيين، وأن مجموع المقاتلين في الجيوش العربية مع المجاهدين الفلسطينيين كان في بداية الحرب 11 ألفاً مقابل 60 ألف مسلح صهيوني، ولم يتجاوز في نهايتها 22 ألفاً مقابل 120 ألف جندي إسرائيلي مع فرق هائل في التسليح لمصلحة الجانب الإسرائيلي،.
الأسطورة الثالثة، أن إسرائيل صدت عدوان ثلاثة جيوش عربية عام 1967 وانتصرت عليها في تكرار لأسطورة انتصار داود على جوليات الجبار.
علماً أن الذي بدأ العدوان العسكري على الأردن والضفة الغربية ومصر وسورية كان الجيش الاسرائيلي المدعوم بكل الوسائل من الولايات المتحدة، في تكرار للعدوان الثلاثي الذي شاركت فيه إسرائيل مع فرنسا وبريطانيا ضد مصر عبد الناصر بسبب تأميمه لقناة السويس.
وكانت الأسطورة الثالثة وسيلة استخدمت بفاعلية للترويج لإسرائيل القوية في العالم الغربي، وتجنيد الدعم لها كقاعدة استراتيجية للمصالح الاستعمارية في المنطقة.
وواجهت إسرائيل ومؤسساتها الصهيونية معضلة تبرير وجود الإحتلال، وآثار النكبة، بالسردية المضللة لوصف النضال الفلسطيني المشروع بالإرهاب، والإدعاء بأنها الضحية في الصراع الدائر رغم أنها تمتلك واحداً من أقوى جيوش العالم، وتحتكر الأسلحة النووية والهيدروجينية في منطقة الشرق الأوسط بكاملها.
ولا تتوقف السردية المضللة عند أي حدود للمنطق في إدعاءاتها وأكاذيبها، وفي إخفائها الحقائق والواقع، مستخدمة اللوبي الصهيوني وأذرعه المنتشرة في كل العالم لمهاجمة كل من ينتقد السياسة الإسرائيلية، أو يطالب بانهاء الاحتلال، أو يتفق مع الوصف الدقيق لنظام الأبارتهايد والتمييز العنصري الإسرائيلي.
بل تحولت هذه السردية، مع مرور الأعوام، إلى آلة هجومية شرسة تنشر الإرهاب الفكري ضد كل من يتجرأ على قول الحقيقة في الإعلام الدولي، أو الدول الغربية، وتمول الحكومة وأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، العديد من الأدوات المتخصصة في مهاجمة مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني والدولي، ومنظمات الأمم المتحدة، ومؤسسات حقوق الإنسان مثل "NGO Monitor" و "UN Watch" و "UK Lawyers" بهدف تجفيف كل ما يدعم بقاء الشعب الفلسطيني في وطنه وفي مواجهة مؤامرة التطهير العرقي.
وفي عُرف هذه السردية، كل فلسطيني يقاوم الاحتلال ولو بالكلام هو إرهابي، أو محرض عنيف، ويوسم كل من يدعم حقوق الشعب الفلسطيني باللاسامية، أما اليهود الرافضون للسياسة الإسرائيلية والاحتلال فيصنفون "كارهين للنفس".
وتمثل مصفوفة المصطلحات التي فُرضت على الإعلام الدولي، وخصوصا وكالات الأنباء الكبرى، وتسللت إلى بعض وسائل الإعلام العربية، وسيلة إضافية لإخفاء الحقائق والترويج للمفاهيم والروايات الإسرائيلية، ومنها المساواة بين الاعتداءات الإسرائيلية والقتل الإرهابي للفلسطينيين، وبين المقاومة الفلسطينية المشروعة ووصفها جميعاً "بالعنف".
أو وصف ما يجري بين إسرائيل والشعب الفلسطيني "بالنزاع" لإخفاء وجود الاحتلال ونظام الأبارتهايد والتمييز العنصري الإسرائيلي، أو الادعاء أن الضفة الغربية وقطاع غزة ليست مناطق محتلة، بل أراض متنازع عليها.
ومن الأمثلة الأخرى الوصف الذي تكرر على لسان المسؤولين الأميركيين، كما في قول وزير الخارجية الأميركي بلينكن ، أخيرا، بضرورة الحفاظ على إسرائيل دولة يهودية وديمقراطية، من دون توضيح كيفية الجمع بين هاتين الصفتين عندما يُمارس نظام الأبارتهايد ضد الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة وضد الفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية في أراضي 1948.
ومن المؤسف أن المصطلحات والرواية الإسرائيلية اقتحمت وسائل إعلام عربية، بل واقتحمت مفاهيمها عقول مسؤولين اندفعوا في عمليات تطبيع مع منظومة تمارس الاحتلال الأطول في التاريخ الحديث و نظام الأبارتهايد العنصري الأسوأ في تاريخ البشرية، وفيما يمثل رشاً للملح على الجرح، تُستخدم الرواية الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني مبرراً للتطبيع المشين.
ومن ناحية أخرى واجهت الرواية الإسرائيلية أزمات عديدة، من أبرزها صور المجزرة الوحشية لمخيمي صبرا وشاتيلا عام 1982، و صور الانتفاضة الشعبية الأولى التي اخترقت وعي العالم وعرت جيش الاحتلال ومنظومته باعتبارها جهاز قمع وحشي ضد شعب يناضل من أجل حريته.
وتكررت الأزمات مع مشاهد المجازر الوحشية في الحروب المتكررة على قطاع غزة، وفي صور جدار الفصل العنصري، وفي شراسة الاستيطان التوسعي الاستعماري.
ويمثل صعود الفاشية العارية للحكم في إسرائيل وحكومتها العنصرية المتطرفة القادمة تحدياً كبيراً آخر للرواية الاسرائيلية.
غير أن الأمور لا يمكن أن تُصلح نفسها بنفسها. إذ لا يمكن دحض الرواية الإسرائيلية إلا بآلة إعلامية وسياسية قادرة ومنظمة، خصوصاً أن النجاحات الإسرائيلية كانت دائماً مرتبطة بمتانة المؤسسات واللوبيات الصهيونية ومثابرتها وقوة تنظيمها.
وما من شك في أن دحض الرواية الإسرائيلية وتفنيدها سيكونان دوماً مرتبطين بتوفر شرطين: أولا، مقاومة الشعب الفلسطيني على الأرض وهي السبيل الوحيد لإجبار العالم على فتح عيونه لرؤية الواقع، والتوقف عن إغلاق أذنيه عن سماع الحقيقة.
وثانياً، وجود منظومة إعلام ودعاية فلسطينية منظمة وقوية لإيصال الحقيقة للعالم. "فما من شيء يحدث في عصرنا ما لم يتم وصفه" كما قالت الكاتبة فرجينيا وولف.
لدى الفلسطينيين سلاح جبار لا تملكه الآلة الإسرائيلية، وهي الحقيقة كما هي، لكنها تبقى قوة كامنة ما لم تُفعل بالمقاومة والإعلام المنظم.