بعد غد ربما سيعلن نتنياهو عن حكومته، تلك الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل بعد أن حسم المجتمع أمره باتجاه النزعة التوراتية العتيقة ليعيد ترميز كهانا من جديد على شكل إيتمار بن غفير ويضع سليل الحاخامات بتسلئيل سموتريتش قابضاً على الضفة الغربية التي يعتبرها بقعة جغرافيا أساطير الكتب المقدسة وأحداثها، ويقدم ماعوز الغارق في القرون ما قبل الوسطى ليعيد صياغة اليهودية بعد أن خرجت عن التعاليم ويعيد لدرعي الفاسد ما يكفي من صلاحيات إقامة مملكة التاج.
ماذا يريد الفلسطينيون أكثر من هذا؟ يقدم خصمهم السياسي الذي يعيد تشكيل نفسه بعيداً عن الحضارة والحداثة ويعيد تقديم نفسه على هيئة داعشية بنسختها اليهودية وبهذا الوضوح أمام عالم سيكون في حالة صدام كبير مع قيم تلك الحكومة والدولة والتي ستحشره في مواقف وستضعه في حالة حرج كبير لن يحتمل الهروب منها كثيراً لأنها لن تعطيه مجالاً للمناورة أكثر بل سيقف أمام حقيقة الأشياء حين تصفعه حكومة إسرائيل بما يذكره بالماضي العنصري الذي تسبب بدمار القارة الأوروبية.
ستغادر أخيراً حكومة التضليل الخاصة بيائير لابيد، تلك الحكومة التي ورثها عن نفتالي بينيت والتي كانت لعبة العالم والولايات المتحدة والبيت الأبيض، أحاطوها برعايتهم ودعمهم خوفاً من نتنياهو الذي سيحرجهم وفي سياق ذلك لم يكن مهماً كم يدفع الفلسطينيون من ثمن لكن الأهم ألا يجد هذا العالم المصاب بعطب الضمير في لحظة حرج، ستغادر الحكومة التي قدمت وجهاً حضارياً لإسرائيل وتحل محلها إسرائيل السافرة بلا أي ورقة توت تغطيها.
خاف العالم على حكومة بينيت - لابيد من السقوط وكان الثمن أن ترتكب ما تريد من الجرائم من أجل البقاء هذه الحكومة التي سجلت أكثر الحكومات قتلاً للفلسطينيين في سنوات الصراع الأخيرة، وهي الحكومة التي تُرِكت تستبيح الضفة استيطاناً بلا توقف، وهي الحكومة التي تجاهلت الفلسطينيين ورفضت المفاوضات وتجاهلت القيادة الفلسطينية ...كان كل ذلك مسموحاً وبرعاية دولية حتى لا يأتي نتنياهو.
كل ما كان يقدمه العالم هو تأكيد باهت على مصطلح حل الدولتين الذي كان يتم ذبحه على يد حكومة بينيت لابيد المضللة التي تضم ميرتس وحزب العمل ووزيراً عربياً وبغطاء حزب عربي، حكومة علمانية تنسجم بقوانينها وتراثها مع التراث العلماني الغربي، جاء نتنياهو بجوقته ربما هي فرصة لوضع العالم أمام اختبار الحقيقة التي يعرفها تماماً والتي تهرب منها طويلاً، فماذا يهمه إذا كان الفلسطيني وحده هو من يدفع الثمن؟
حكومة لابيد المغادرة كانت استمراراً سيئاً لحكومات يمين الوسط الذي استكمل التنكر للحقوق الفلسطينية دون معارضة، وفي ما كانت الوقائع على الأرض تزداد اختناقاً كانت تلك الحكومة تستكمل أيضاً لعبة الحفاظ على الوضع الراهن ببقاء الاحتلال دون حل للفلسطينيين وكان هذا ممكناً أن يستمر لعقود أخرى دون أن يشعر أحد أن هناك مشكلة كبيرة طالما أن العالم يستعيض عن الحل بدفع رشوة مالية دون أفق سياسي متواطئاً على استمرار السيطرة على الفلسطينيين وإعدام حل الدولتين.
جاءت حكومة نتنياهو التي يعلن أقطابها رغبتهم بحسم المسألة، وهذا في صالح الفلسطينيين لأن حالة المراوحة التي عاشها الفلسطينيون منذ كامب ديفيد قبل أكثر من عقدين أحدثت ما يكفي من التآكل في مشروعهم الوطني وقدراتهم وعلاقاتهم الداخلية المتوترة حد التفسخ والأخطر أنها أعطت انطباعات للعالم بموافقة الفلسطيني على استمرار هذا الوضع للأبد.
ماذا سيفعل سموتريتش القوي في حكومة نتنياهو؟ هو يهدد بضم الضفة الغربية ويهدد بإنهاء وجود السلطة الفلسطينية، وماذا بعد؟ تماما إن تمكن من فعل ذلك فهو يعيد الأمور إلى بداياتها بعد أن أصابها قدر كبير من التشوش بتحويل السلطة المؤقتة إلى دائمة وعجز الفلسطينيين عن الخروج من هذا الشرك الكبير والكمين الذي وجدوا أنفسهم فيه بلا قدرة على الخروج، هكذا تعود الأمور إلى بداياتها شعب تحت الاحتلال يقاتل لتقرير مصيره ولا يدفع ثمن حكم نفسه تحت المحتل بكل تعقيدات اللحظة هو يفكك تلك التعقيدات.
لن تقام الدولة الواحدة إن غابت السلطة فتلك على تضاد هائل مع منظومة القيم العنصرية فالدولة الواحدة تتطلب ثقافة إنسانية مختلفة، وسيتم استكمال هدم آخر حجر في حل الدولتين حيث عنوانه السلطة فماذا بعد؟ إذا لم يكن حل الدولة ولا الدولتين، سيتبلور نظام واضح من الفصل العنصري وهو مطلوب صحيح أن هذا النظام كان قائماً وهو المعمول به وبجملة من القوانين والتشريعات، لكن كان يجب أن يأتي ليرفع عنه الغطاء ليظهر بهذا السفور وها هو سموتريتش يعلن أنه سيفعلها وهذا أفضل ما يحدث للقضية الفلسطينية وأفضل خدمة للفلسطينيين.
حكومة نتنياهو ستعطي للفلسطينيين متسعاً أكبر للعمل على الصعيد الدولي فمن يجرؤ على الدفاع عن حكومة كهذه أمام الفلسطينيين؟ لن يستطيع نتنياهو كبح جماح متطرفيه لأنه الأضعف بينهم، أوروبا أوقفت اتفاقية اليوروبول لتبادل المعلومات والبيت الأبيض يحسب ويهود أميركا يجدون أنفسهم في حالة تناقض مع هذه الحكومة حد التهديد بعدم دعمها، ومع هذه الحكومة عاد الحديث أقوى عن مستقبل حل الدولتين والمؤتمر الدولي الذي كان غائباً عن جدول الأعمال بسبب الرعاية الأميركية ... حكومة نتنياهو تعيد للقضية أهميتها وتعيد حضورها هذا مهم لكن الأهم كيف سيستفيد الفلسطيني من خصم كهذا ؟ سؤال المليون مقال.