شاب يبدو من ملامحه في مطلع الخمسينات يبلغ من العمر منذ ما قبل وعد بلفور، ترى في تفاصيل وجهه ومشيته تاريخ ثورة بأكملها، مقاتل حفظ جغرافيا التاريخ ليعرف جيدًا أن حدود الحياة هي الموت، وحدود التاريخ هي انتصار صاحب الأرض، كان ذلك الشاب الوسيم (رحمه الله) خبيرًا في فلسفة البقاء وحسابات المواجهة بين قلم السجين وسوط الجلاد، لا شيء كان يردعه.
ثائرٌ ومقاتلٌ برتبة بندقية من طراز (كارلو)، وقورٌ بين رفاق الزنزانة، صابرٌ ساخرٌ أمام صولجانٍ مرتعشٍ يحمله قاتل أطفالٍ حَكَمَ عليه بالمؤبد.
(ناصر ابو حميد)، حبيس الجدران المعتمة منذ عشرون عامًا، لم ينهكه المحقق ولا تعاقُب فصول السنة الأربعة بذات اللون والرائحة، يجلس كل ليلة بين رفاق زنزانته يسترق السمع عله يسمع صوت أحد من اشقائه الأربعة ( نصر ، شريف ، اسلام ومحمد) الذين قاسموه عتمة السجن دون أن يلتقيهم في مساحة جدرانه الضيقة والمعتمة .
يهرب خلسة من ظلمة السجن يغمض عينيه فيرى والدته وحيدة في منزلها تتناول وجبة الإفطار وسط مجموعة من الصور والذكريات .
يرى الحزن والشوق يغمر عيني والدته ، فتنساب دمعة من عينيه تمسحها كلمات أمه وهي تقول له من بعيد ... انت اقوى منهم يا سند روحي (دير بالك على اخواتك يا ناصر ) .
يستنشق وصيتها قوة، ويسرد لرفاق زنزانته رواية بعنوان (هكذا سننتصر) .
تمر السنوات ولا شيء ينال من عزيمة ناصر ،لكنه السرطان اللعين الذي جعل أمنيةً آدميةً تطفو كجثةٍ هامدةٍ على شطآن لسانه بأن يموت بين احضان والدته واشقائه.
ذاب لحمه، ولم يعد يقوى على المسير أو حتى الكلام، تخونه قواه فيقع فاقدًا الوعي دون أن يسقط، يتفشى المرض وينهل في عظم الشاب، يرتجف جسده النحيل وتغوص عيناه أكثر في رحم أمنيةٍ واحدة، أن يرحل بين يدي أمه، فثمة كلمات وصيةٍ لا زالت تنتفض في صدره، تبحث عن عائلةٍ ترتمي في أحضانها.
أعياه المرض...
يصمت الزمن لبرهة في أقبية السجن ...
شو الأخبار ؟؟؟!!!
ناصر تعبان ...
ناصر بسلم عليكم ...
تقرر إدارة السجن نقله إلى المستشفى بعد أن فقد الذاكرة ولم يفقد الاسماء ...
هذه فلسطين ..
وهذه بندقية ..
وهذه امي ...
وهؤلاء المساجين المئة هم اخوتي .. نصر واسلام .
فسبحان من علمه الاسماء كلها ..
نقلوه إلى المستشفى بعد أن شارف على الرحيل، ينظر حوله فلا يرى سوى جندي إسرائيلي بلباس طبيب مزيف وجنود الجيش المسربلين بالعتاد العسكري وبالخوف وسرير، تتثاقل جفناه ولم يعد يقوى على رؤية كل تلك البشاعة في هيئة بشر، ينظر يمينه ليرى يده المقيدة في سريرٍ لا تقوى على مسح دمعةٍ مشاغبةٍ استطاعت الفرار من سجن الجفون، وأمنية وحيدة لا زالت معلقة بين الأمل والرجاء بأن يموت بين أهله واشقائه.
يصرخ القتلة المتشحين بسواد تاريخهم وفعلهم، أحضروا (مُسَكّن الألم)، ولا تفكوا قيد يديه، يسأله آخر ماذا بالنسبة لقدمه فيجيب: "شدوها بقيدٍ آخر".
سمع الشاب حديثهم فتبسم ثغره مستسلمًا لغيبوبة قادته لمشيئة الله، إنا لله وإنا إليه راجعون.
رحل ناصر ..
أغمض عينيه، وفاضت الروح المشاغبة، ولم يبقَ على السرير سوى جسد نحيل لشاب مريض.
مااات ...
بلغة غريبة دخيلة على الأرض والتاريخ تصرخ الممرضة ..
مااات المريض ...
يعلو صوت ممرضةٍ أربعينيةٍ شقراء بملامح قاسية، تضع نظارتها على أسفل منخارها …
ارفعوا الأجهزة ...
غطوا الجثة ...
ولا تفكوا القيد ...
غادروا الغرفة جميعًا، وتركوا جثته المقيدة، وجندي على الباب يحرس الجثة، ويتأكد كل طرف ساعة أن الجثة لا زالت مقيدة لم يسرقها شوقها لأهلها.
جثة ناصر لا زالت مقيدة اليد والقدم في سرير المستشفى، بينما ناصر نفسه بكامل قوته وهيبته وهيئته القديمة، روحه في صورة شابٍ حمل بندقية ( الكارلو) ويقف بجوار جثته يمسح على رأسها يغني لها أغنية الطفولة والانتفاضة، سبّل عينيه ومد يده للحناء.
مر يومٌ بأكمله، ولا زالت الجثة مقيدة اليد والقدم، والقيد قد جلد معصميه النحيلين، وصلت سيارة الجند في ساعة متأخرة تحت جنح الليل، مدججين بالسلاح والخوف، ونقلو الجثة إلى مكانٍ يسمى (مقبرة الأرقام) ودوّنوا عليها رقمًا، لتلتحق جثة ناصر بكتيبة من رفاقها المقاتلين ...
يشير ضابط الاحتلال لجنوده أن يعطوا الجثة رقما قبل أن يبدأو في الدفن ...
فتبسم صاحب الجثة ساخرًا ..
هذه جثتي ولها اسم ...
(ناصر ابو حميد) الفلسطيني الفدائي المقاتل المؤمن بعدالة السماء والقضية وحتمية النصر، والضابط الأسير المحكوم فخرًا بالمؤبد، مدرس تاريخ النصر وجغرافيا الأوطان وموسيقى السلام الوطني ورسم البنادق ورياضيات المواجهة وفلسفة الزمن الذي سينتصر.
وسأتلو على مسامعكم روايتي بعنوان ..
هكذا سننتصر ...