ليس خافيا على أحد أن طبيعة العلاقة "الأمريكية – الفلسطينية" مستندة على فكرة واحدة لا غير، فكرة "وجود إسرائيل كأمن ودولة"، هذه الفكرة تجسدت لدى مُختلف إدارات البيت الأبيض "الديمقراطية والجمهورية" بإعتبارها سياسة ثابتة لدى الدولة العميقة في "الولايات المتحدة الأمريكية" وبحيث يتراوح طبيعة الإختلاف في التعامل مع الجانب الفلسطيني من قبل هذه الإدارات في الهوامش وفي كيفية إدارة الصراع لا أكثر، ومن شذّ عن هذه السياسة هي فقط إدارة الرئيس السابق "ترامب" الذي طرح خُطته "صفقة القرن" وأراد فرضها كحل نهائي على الجانبين، رغم أنهما يرفضانها، الفلسطيني يرفضها لأنها إنتقاص كامل لحقوقه الوطنية المقرّة من الشرعية الدولية "الأمم المتحدة" بالذات، إضافة إلى أنها تتجاوز قرارات "مجلس الأمن" الخاصة بالقضية الفلسطينية في موضوعة الأرض والإستيطان، في حين هناك في الجانب الآخر "الكيان الصهيوني" يرفضها إما لأنه ضد شيء إسمه دولة فلسطينية أو لأنه يرى التوراة والأرض المقدسة في الضفة الغربية والقدس.
ما بعد "ترامب" جاء الرئيس "بايدن" والذي إتبع سياسة تُعتبر أقل ما يمكن عن سابقاته من الإدارات المختلفة لأنه حتى هذه اللحظة أبقى على خطوات سابقه المتعلقة بإغلاق مكتب تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية في "واشنطن" وعلى نقل السفارة الأمريكية إلى "القدس" وإغلاق "القنصلية الأمريكية" في شرق القدس، وفوق كل ذلك لم يطرح ولم يضغط لإستمرار ما عُرف بإسم "عملية السلام" مكتفيا بإعادة المساعدات المالية والحديث عن تحسين شروط المعيشة للسكان الفلسطينيين إقتصاديا عدا عن التصريحات الكلامية المؤيدة لمفهوم الدولتين، بمعنى أن تركيز هذه الإدارة هو نحو إدارة "الصراع" والحفاظ على الحد الأدنى الممكن من التصعيد، في تأييد واضح لسياسات "تقليص الصراع" ومنعه من التوسع وبحيث يكون تحت السيطرة وهذا يشمل ليس فقط الضفة الغربية والقدس بل أيضا قطاع غزة.
ضمن هذا السياق، ومن خلال الفوقية السياسية التي تتعامل فيها كافة إدارات "البيت الأبيض" والمستندة لموازين قوى راجحة له ولكيانه التابع، فإن رعايته لما أسموه "عملية سلام" ليس سوى سياسة أمريكية مُمَنّهجة لفرض أمر واقع على الشعب الفلسطيني وبالتدريج ووفق سياسة الكلام بلا خطوات عملية تدعمه، وعبر مجموعة من الإغراءات الكاذبة للقيادة السياسية الفلسطينية التي إنتظرت وتنتظر وستبقى عالقة في سياسة الإنتظار إلى حين تحويل كل ما جَرى ويَجري وسَيجري إلى أمر واقع كما السفارة في "القدس" وإقتحامات الأقصى وباحاته وتهويد المدينة المقدسة والإستيطان في "الضفة"، لأن قُصة الشرعية الدولية في ظل الحماية الأمريكية الشاملة والكاملة للكيان الصهيوني لا معنى لها خاصة أن هذه الشرعية لا تزال تحت الرعاية الأمريكية وتابعياتها الغربية، وفقط موقف واضح يوضح ذلك دون الخوض في التفاصيل وهو التصويت الأمريكي في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد قرار حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني الذي أيدته 168 دولة.
مُعضلة الشعب الفلسطيني ومنذ نكبة عام 1948 هي مع الدول العظمى المهيمنة على القرار الدولي والحامية للمشروع الصهيوني، ففي البداية كانت "بريطانيا" العظمى ومعها "فرنسا" التي سَلّحت هذا الكيان بالسلاح النووي بعد سنوات معددوة من تَشَكُله، ثم تسلمت راية الحماية والإحتضان لهذا المشروع "الولايات المتحدة الأمريكية"، اي أن طبيعة الصراع ليس مع الصهيونية ومشروعها فقط، بل هو صراع مع النهج الإستعماري للدول الغربية المهيمنة على العالم وعلى منطقتنا العربية عسكريا وإقتصاديا، وبحيث تم إنتاج بعضا من أشباه الدول العربية أو محطات بنزين لتخدم ذاك المشروع بطريقة أو بأخرى، بل وصلت الأمور لتوظيف بعض من محطات البنزين لتكون الممول الأساسي في تدمير بعض الدول العربية التي حاولت أن تستقل في القرار وفي بناء القوة وبالتالي شكلت خطراً على المشروع الصهيوني، كما في "العراق وسوريا وليبيا" ومن قبل "الجزائر"، ولم تكتفي عند ذلك بل تآمرت ومولت الإنقسام الفلسطيني وتحت مسميات كاذبة ولكن ضمن سياسة مُخططة ومُتفق عليها مع الراعي الأمريكي ومع أصحاب المشروع أنفسهم "الكيان الصهيوني".
مُشكلة الفلسطيني كَ "قيادة" رسمية وغير رسمية أنه في ظل الهجمة المسعورة عليه والتي تستهدف الكل الفلسطيني شعبا وأرضاً، تعيش حالة "التوهان" لأنها تُركز على التفاصيل أكثر مما تُركز على الأهداف الإستراتيجية، مما أدى إلى إغراقها في تفاصيل الحياة اليومية وبدأت تعتمد سياسة مرتبطة بذلك، بل أصبحت قراراتها وتحركاتها مُستندة لذلك أكثر مما هي مستندة لإستراتيجية التحرر والإستقلال والتي تتطلب أخذ قرارات جذرية وصادمة تقلب الطاولة على الكل المتآمر وبغض النظر إن كان يُعد من المنافقين "الأخوة الأعداء" أو من الأعداء الواضحين.
وبالرغم من أن الظرف الفلسطيني الذاتي غير ناضج ككل، إلا أن طبيعة ما يجري في "الضفة الغربية" وبالذات في شمالها "نابلس وجنين" بشكل خاص تُنبيء بصحوة حتى لو كانت تدريجية ولكنها تُشكل البداية للمواجهة الشاملة مع الإحتلال الصهيوني، كما أن وجود حكومة صهيونية "عنصرية وفاشية" على رأس المشروع الغربي في منطقتنا يُعزز من فرضية الصراع الكلي معه وسيؤدي لإنخراط كافة الجغرافيا الفلسطينية كَ "شعب" فيها بطريقة أو بأخرى، فالمسكنات الإستعمارية إن كانت بإسم "المساواة" أو بإسم "الدولتين" لن تكون قائمة بعد ذلك، إضافة إلى أن الظرف الموضوعي عالميا وإقليما له تداعياته علينا وبما يؤدي إلى التسريع في تلك المواجهة، فَ "محور المقاومة" يُراكم قوته ويعزز دوره وأصبح يتفاعل مع محيطه وفقا لسياسة التقارب والتعاون وإن كان ذلك ببطء ولكنه يعكس العقلية المستقبلية لواقع المنطقة " التقارب الإيراني السعودي" و "التقارب التركي السوري"، في حين روسيا العظمى قادمة ومن بوابة "أوكرانيا" بعد أن رسخت نفوذها من بوابة "سوريا"، وعليه، فإن على القيادة الفلسطينية ككل وبما يشمل كل المكونات أن تتفق على سياسة جديدة وقراءة مختلفة عن السابق في طبيعة علاقتها مع إدارة "البيت الأبيض"، فالقدر الأمريكي جاء وسيبقى لحماية مشروعه الصهيوني ولن يكون يوما مع مفهوم التحرر والإستقلال للشعب الفلسطيني، وهنا من الضروري أن يكون هناك تحرك فلسطيني وعربي رسمي لإعاد إحياء فكرة "المؤتمر الدولي" وذلك لسحب البساط من تحت أقدام الإدارة الأمريكية فيما يسمى "عملية السلام"، وشعار "رعاية دولية لا رعاية أمريكية"، لقد آن الأوان لإتخاذ قرارات تؤدي إلى تغيير طبيعة العلاقات "الفلسطينية – الأمريكية" والهروب من مفهوم الدونية لصالح مفهوم الحق ولا شيء غير الحق ولا حَقّ ممكن برعاية أمريكية، فهذه فلسطين يا سادة تروي ترابها بدماء فلذات أكبادها.