بعد مسلسل تشويقي مثير، أبلغ بنيامين نتانياهو رئيس الدولة إسحق هرتسوغ أنّه نجح في تشكيل حكومته. وكان قد قسّم الغنيمة على حلفائه الذين وفّروا له أغلبية لم يكن ليتوقّعها في الكنيست. إذ لم يتمكّن نتانياهو من الفوز بقوّته الذاتية والحزبية والتحالفيّة، بل بفعل تفكّك منافسيه الساعين إلى منعه من العودة إلى رئاسة الحكومة، ومنهم "بيضة القبّان العربية" التي خسرت ثلث مقاعدها، ومعها خسر التشكيل العريق في الحياة الحزبية الإسرائيلية حزب ميريتس، وباقي الحكاية معروف للمتابعين.
انكشاف صورة إسرائيل
أخرجت حكومة نتانياهو السادسة، صاحبة أغلبية الأصوات الأربعة، نتانياهو من نفق حُشِر فيه معارضاً خلال سنة مشوبة بخوفه من القضاء الذي لاحقه في قضايا فساد ضخمة، كان لا أمل في نجاته منها إلا بقيامه بانقلاب ناجح ضدّ سلطة القضاء "المستقلّة" في إسرائيل، من خلال إقرار قانون التغلّب: إخضاع السلطة القضائية للأغلبية في الكنيست.
غير أنّ خروج نتانياهو من نفق المعارضة أدخل إسرائيل كلّها في نفق أعمق وأشدّ إلحاقاً الأذى، ليس بالضرورة جرّاء اهتزاز صورتها لدى حلفائها قبل خصومها، بل بمحتوى الدولة التي لم يعد بوسع قيادتها الجديدة مواصلة الزعم أنّها واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط، فضلاً عن التباهي بجودة الحكم فيها، وإلقاء تهمة تدمير فرص السلام على الفلسطينيين.
لا تحمل الحكومة السادسة جديداً غير هذا. فهي للفلسطينيين امتداد وحسب لسلسلة حكومات انتهجت التشدّد وتقمّصت الاعتدال. والجامع المشترك بينها أنّها انقلبت بفظاظة وبفظاعة على فكرة السلام مع الفلسطينيين. بعضها ادّعى عدم وجود شريك، والبعض الآخر انصرف عن الفلسطينيين للّعب مع غيرهم. ولكن في المحصّلة النهائية اشتركت كلّ حكومات إسرائيل في تكريس حالة حرب مع الفلسطينيين غزيرة الدماء. لسنا بحاجة إلى الدلالة على ذلك بما هو أكثر من أنّ سنة حكم الوسط الذي تقمّص الاعتدال والمرونة تجاوز عدد شهدائها 220 شهيداً من دون احتساب الجرحى والأسرى وما تمّ نسفه من بيوت.
خصوم عرب وإسرائيليّون
غير أنّ الحكومة السادسة، وهذا هو الوجه الآخر، فتحت على إسرائيل تحدّيات داخلية وخارجية يصعب عليها تجاوزها بلا خسائر تفوق تلك التي كانت الدولة العبرية تتكبّدها خلال عهود الحكومات السابقة، وأهمّها تفاقم الصراع الداخلي المركّب وأطرافه: خصوم حكومة اليمين من اليهود الذين لن يوفّروا سانحة لضرب الحكومة السادسة، ليس فقط في ساحة الكنيست، بل وفي كلّ مكان يُتاح فيه التظاهر والإضراب وتعطيل المسارات. أمّا خصومها العرب الذين يشكّلون 20 في المئة من سكّان الدولة، فكلّهم يرون في "السادسة" حكومة جاءت لخنقهم بإغلاق رئات تنفّسهم الضيّقة أساساً. وفي هذه الحال لن تتوقّف ردود فعلهم على خطب ساخطة يُلقيها ممثّلوهم في الكنيست، فالواقع لا يُخفي تطوّرات أبعد من ذلك بكثير.
عودة إلى الكفاح المسلّح
هناك تحدّي الضفّة وغزّة والقدس. "فالسادسة"، برموزها والفاعلين الأساسيين فيها، ستدفع ملايين الفلسطينيين المحكومين فيها بالاحتلال، إلى الجدار الأخير. وها نحن نشهد بوضوح مقدّمات هذه الاحتمالات. ولن يكون باستطاعة "السادسة" إخضاع ملايين الفلسطينيين لا بقوّة السلاح ولا بإغراء التسهيلات. لذا على هذه الحكومة أن تقرأ جيّداً مدلول آخِر استطلاع أُجري في الضفّة وغزّة والقدس، أظهر أنّ 75 في المئة من الفلسطينيين يفضّلون العودة إلى الكفاح المسلّح. وهذه النسبة مرشّحة للارتفاع حين يمارس سموتريتش وبن غفير هوايتهما المفضّلة: التنكيل بالفلسطينيين.
لا مخاوف لدى الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال من الحكومة اليمينية الجديدة. والرأي العامّ الفلسطيني لسان حاله يقول: هي كغيرها. فقد جرّبنا مَن كانوا لا يقلّون شراسةً عنها.
غير أنّ ما يُسجّل في تقويم أخير للوضع الحكومي في إسرائيل هو أنّ الحلّ ابتعد والصراع تعمّق واتّسع، ولم يعد أمام الفلسطينيين أن يفعلوا سوى ما بقي لديهم: مواصلة صمودهم فوق أرضهم. وهذا ما اختُبروا به ونجحوا فيه. غير أنّ ما يقوّي دعائم هذا الصمود ويضمن فاعليّته واستمراره هو تحصين بيتهم الداخلي المهمَل، الذي هو الأساس في فاعليّة كفاحهم على كلّ الصعد، وهو الضمانة الأكيدة لإفشال "السادسة" مهما فعلت.