في ثابت دائم بالمشهد السياسي – الأمني، تصدر شعبة استخبارات جيش الاحتلال "أمان" تقريرا سنويا نهاية العام، حول أبرز التهديدات أو المخاطر التي يمكن أن تواجه دولة الكيان، ولا يتم الاحتفاظ بها "سرا" تحت كثيرا من تبريرات السذاجة المنتشرة في بعض بلاد العرب، والتي غالبها لا تجتهد لبحث ما سيكون أمنا وسياسة، سوى ما يتعلق بالحكم والحاكم.
تقرير العام القادم، تميز بخروج إيران من بند الخطر الأول، إلى خطر لاحق، مع تقدم الحرب في أوكرانيا، وما سينتج عنها من تطورات ستترك أثرا كبيرا على "النظام العالمي"، ومنها كسر القطبية الأحادية التي سيطرت على الكونية السياسية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، وتفكك المنظومة الاشتراكية، مع اهتمام التقرير بمكانة الصين المتصاعدة ودورها.
ومن بين الأخطار التي تطرق لها "التقرير الإسرائيلي"، المشهد الفلسطيني، وحمل ما يمكن اعتباره "مفاجأة سياسية"، لم يسبق أن أشارت لها دراسة أو موقف علني من داخل الكيان العنصري، خاص بحركة حماس.
التقرير، ولأول مرة منذ انقلاب يونيو 2007، تعامل مع الضفة وقطاع غزة كوحدة واحدة في التقييم، ضمن ذات الدائرة لمخاطر ممكنة، وذلك أول مؤشر يحمل "بعدا" خاصا في المستقبل القادم، ومنه يشتق نظرة الجهاز الأمني الاستراتيجية للمشهد العام.
في تناوله لمكانة السلطة، كان غياب عباس عنصرا مركزيا في الرؤية القادمة، وربطها بتنامي العمليات العسكرية وانتشار ظاهرة "المسميات المسلحة"، خارج الإطار الرسمي، يشير إلى ان "غياب عباس" سيترافق معه "غياب السلطة المركزية"، وقدرتها على مواجهة التطورات التي قد تأخذ ابعادا من "فوضى مسلحة"، دون أن يحدد تفاصيل إلى حين نشر كامل التقرير، وترك العديد لوسائل إعلامهم العبري تفسيرا وتوضيحا عنوانه "الفوضى".
الحديث بسلبية واضحة، وتجاهل الدور الأمني للسلطة في الضفة ومنها التعاون الثنائي، يقابله حديث بـ "إيجابية فريدة" عن حركة حماس وحكمها في قطاع غزة، وتلك سابقة أولى منذ سيطرتها على الحكم عبر انقلاب يونيو 2007.
التقرير الأمني الإسرائيلي أشاد بتجربة "حكم حماس" في قطاع غزة، التي "تحاول تقديم نفسها على أنها عنوان حكومي حقيقي، وليس مجرد منظمة مسلحة"، كما ينطبق ذلك على حاكمها العام يحيى السنوار "الذي يحاول مؤخرًا، بناء صورة لرجل دولة، وليس مجرد مقاتل".
وبعيدا عن "صوابية" أو "لا صوابية" الوصف لحكم حماس من واقع الحال الراهن، ومعرفة أهل القطاع الحقيقية بابتعاد ذلك عن الصواب، فالإشارة لا تخلو أبدا من "مؤشرات سياسية" واضحة، بنقل العلاقة بين دولة الكيان وسلطة حماس من "نفق السرية" وعقد الصفقات الثنائية، التي تم الكشف عنها مرات، أو عبر وسيط وطرف ثالث، إلى العلنية، والتمهيد بتقديمها داخل الكيان (وليس فقط المؤسسة الأمنية) بأنها "عنوان دولة" وليست حركة عسكرية بما يرافقها أوصافا متلاحقة.
أهمية ما تم نشره، لا يأتي فقط بالنصوص التي تناولها، بل من الجهة التي أشارت له، فهي مؤسسة أمنية مرتبطة بجهاز المؤسسة العام، كجزء من جيش الكيان، وليست مركزا بحثيا، او معهد مدني يضم باحثين لهم رؤية خاصة، بل هو "تقييم استراتيجي" للمرحلة القادمة، من الجهاز الأمني البحثي الأهم في دولة الكيان.
استباق مرحلة ما بعد عباس، وأحداث العام القادم، تنقل العلاقة بين دولة الاحتلال وحركة حماس إلى مرتبة "علنية" جديدة، وتمهيدا لقبولها كـ "عنوان حكم حقيقي" ليس في غزة فحسب، بل في الضفة الغربية، بديلا للسلطة الفلسطينية وحركة فتح، او "الشريك القوي" معها.
"التبشير الأمني الإسرائيلي" لمكانة حماس وقيادتها، ليس موقفا في مقال رأي لسياسي، او لصحفي إسرائيلي سبق أن طالب علانية باعتبار حماس "ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني"، بديلا عن منظمة التحرير الفلسطينية، وساق بعضا من مؤشرات "التقرير الأمني" الأهم في دولة الكيان.
ربط "الفوضى المسلحة" مع انتشار المسميات المسلحة في الضفة، وعدم قدرة السلطة الفلسطينية في السيطرة عليها، مقابل سيطرة حماس المطلقة على "المشهد الأمني" في قطاع غزة، وانتهاء عصر "التشوش الأمني"، بما فيها قضية إطلاق الصواريخ، مع ان قيمتها السياسية تساوي صفر، ووقف كل مظاهر التحرك الشعبي عند مناطق السياج الفاصل، رغم الانتهاكات اليومية لجيش الاحتلال ضد سكان شرق قطاع غزة، من رفح إلى بيت حانون، دون رمي حجر عليه، يمثل القاعدة المركزية التي تهم دولة الكيان وجيشها ومؤسستها الأمنية.
"سيطرة حماس المطلقة" على أي عمل ضد دولة الكيان وجيشها الاحتلالي والانتهاكات التي لا تتوقف تخريبا وتدميرا لمزارع مواطني طول السياج، وحركية مواقفها السياسية، تحت "تبريرات مختلفة" يمنحها "أفضلية" عن حركة فتح وسلطتها، لتصبح هي "عنوان الحكم" ما بعد عباس بشكل أو بآخر في "افضليات الخيار الإسرائيلي" الرافض كليا لإقامة دولة فلسطينية، ويبحث عن "شراكة سياسية لمحميات بالضفة ونتوء كياني في قطاع غزة".
تقرير المؤسسة الأمنية لدولة الاحتلال، رسالة سياسية مبكرة وليست جرس إنذار مبكر، فالأمر تجاوز ذلك، وإعلان مثل ذلك التقييم لم يأت رد فعل على حدث ما، بل نتاج تقييم شامل لسلوك خلال سنوات، ليصل ال ذلك "الانقلاب الشامل" باختيار حركة حماس.
إسرائيل تختار "شريكها السياسي" ما بعد عباس، رغم كل ما التزم به منذ 2005، بل وأوقف كل الخطوات التي أعلنها في خطابه الهام سبتمبر 2022، واكتفى بين حين وآخر بالتحذير أنه لن يبقى ساكتا، رغم انه مستمر بالسكوت جدا.
رسالة الجهاز الأمني الإسرائيلي، تستحق من حركة فتح التي تحتفل بذكرى انطلاقتها في الفاتح من يناير، أن "تقف وتفكر"..هل يكون العام القادم نهاية مرحلة سياسية تاريخية لها..أم بداية انطلاقة كفاحية جديدة"..تلك هي المسألة ولا غيرها!