اثنا عشر شهراً هي الفارق بين رقمين على أجندة الزمن يطلق عليها علماء اللغة سنة إذا كانت قاسية وشديدة، أما إذا كانت أشهراً مريحة يطلقون عليها «عاماً» .. لكنها كانت سنة بامتياز بالنسبة للفلسطينيين، ثقيلة في أشهرها التي امتلأت بالحزن، وكذلك بالنسبة لعالم أفاق على حرب قلبت معاييره ووصلت آثارها لكل بيت.
كانت سنة تزداد فيها أزمة الفلسطيني الذي بدا كأنه فقد توازنه وانعدمت خياراته في إطار مشروعه الوطني، وهو يراقب حجم التراجع الذي أصاب القضية الفلسطينية وحجم الصراعات الداخلية التي لم تتوقف توربينات شحنتها عن الكراهية وهو يتوج سنوات التشظي دون بارقة أمل لاحت عابرة في الجزائر وإذ بها تنطفئ لحظة إشعالها دون كثير من الاهتمام لتجربة أعطت ما يكفي من العجز عن الخروج من لحظة العجز التي تأبدت.
كانت سنة تستبيح فيها إسرائيل المدن الفلسطينية قتلاً وأسراً وهدماً دون أن يوقفها أحد، ودون أن يتمكن الفلسطيني من إنتاج سياسة قادرة على الحد من تلك الاستباحة التي غطت الأشهر الماضية بالحزن والجنازات وثكل الأمهات وهن يودعن الأحبة الذين تقدموا أثناء تهدئة الفصائل محاولين ملء فراغ خلفته الحالة الوطنية.
وقد أحدثت هذه السنة ما يكفي من تآكل الثقة بين الشعب وفصائله المتصارعة التي استمرت في معاركها الصغيرة وتنافسها وحملات التشهير والتربص.
كانت سنة تقدم فيها إسرائيل حراس التوراة بما يحملون من خيالات الانتصار على الفلسطيني القديم على هذه الأرض واحتفالات طرده منها، يعودون من جديد كأن يهوشع بن نون يسلم رايته لبتسلئيل سموتريتش ليحول الأسطورة إلى واقع على أنقاض هزيمة الفلسطيني بالقوة العسكرية المسلحة وبموت الضمير العالمي الشاهد على سردية لا تنتهي من العنف والعنصرية.
كانت سنة بدا فيها العالم الخارج لتوه من جائحة أحدثت رجة في قيمه ومعاييره واهتماماته وأولوياته، وهزة عنيفة لاقتصاده وسياساته التي انكفأت أكثر نحو الداخل ليكتشف الفلسطينيون أن قضيتهم تراجعت أمام زحمة الاهتمامات العالمية وانفض عنهم الجميع وبقوا وحدهم يواجهون هذا الإعصار المدجج بقنبلة نووية.
كانت سنة يكتشف فيها الفلسطينيون استمرار انسداد خياراتهم، ووصول المشروع الوطني إلى ما يشبه النهايات التي تآكل فيها كل شيء بدءا من المناعة الداخلية وصولاً لحجم الاحتضان العربي والدولي.
هي سنة بدا فيها العرب كأنهم أشاحوا بوجههم بعيداً وتركوا الفلسطيني يواجه مصيره وسط سؤال بات يسأله كل عربي لماذا لا تتوحدون ؟ وسط تهرب فلسطيني من تقديم أي إجابة تتطلبها الضرورة الوطنية بلا تأجيل.. ولكنهم لا يبالون بعجلة الزمن التي تدوس على حاضرهم ومستقبلهم بلا رحمة، ولا يبالون بصورتهم وصورة شعبهم أمام حتى أشد المتعاطفين معهم والذي بات يخجل من تلك الصورة لشعب يقاتل نفسه تحت الاحتلال طمعاً بالحكم ويعجز عن التوافق لسنوات.
هي سنة تفتت فيها الوضع الفلسطيني أكثر وتباعدت فيها الجغرافيا أكثر وتباعدت المؤسسات والأفراد والعشائر والمدن، حيث يتراجع الجامع المشترك لشعب واحد وهذا أخطر ما يمكن رؤيته حين تختلف اهتمامات وقضايا وأولويات التجمعات الفلسطينية في الضفة وغزة ومناطق الداخل والشتات، ويزداد التفسخ أكثر في المنطقة الجغرافية الواحدة فلم يتوقف الأمر عند أن غزة لم تعد تشبه الضفة بل إن نابلس غير رام الله وعباس منصور يختلف كثيراً عن أيمن عودة بما يمثلان من انقسام، أما الشتات فيبدو أنه خارج المجموعة وأفلت من المدار وابتعد عن النواة.
كانت سنة بدا فيها المواطن الفلسطيني حائراً من ضبابية اللحظة ومستقبلها وهو يرى كل هذا الاختناق الذي يحيط به من أزمة سياسية لأزمة إدارية في الأداء البدائي لأنظمة الحكم، وصولاً لأزمة اقتصادية بفعل التداعيات الدولية مروراً بأزمة الاحتلال وإهانة الكبرياء الوطني والشخصي وسط انتشار الحواجز والمستوطنات واستمرار الحصار على غزة وسط تعهدات منذ زمن بعيد برفع هذا الحصار «وبالقوة إن تطلب الأمر». لكن القوة تآكلت في ذروة البحث عن تكريس الحكم ومقايضات الاقتصاد والمساعدات لتقع الحالة الفلسطينية برمتها تحت مصيدة هي الأكثر تعقيداً في تاريخ صراعهم مع الاحتلال.
كانت السنة التي قبل أن تنتهي تسلم الفلسطينيين لحكومة لم تخجل من إعلان فاشيتها وجاهزيتها للانقضاض على ما تبقى من الأرض كما جاء في إعلان تنصيبها يوم أمس، وهو بمثابة إعلان حرب جديدة تختلف عن كل ما سبق، حرب الإفناء التي عجزت عنها لأكثر من سبعة عقود، يتجهزون لهزيمة الفلسطيني الذي هزمه الأداء الداخلي أولاً، وهزمه العربي الرسمي الذي يشيح بوجهه متباعداً وهزمته المعايير المختلة للعالم الحر الذي انكشف عند أول حرب على حافة الناتو وحدوده.
وفي ظل كل تلك المناخات التي كشفتها السنة العابرة بثقلها ألم يحن الوقت ليسأل الفلسطيني «ما العمل»؟ أما إذا استمر متجاهلاً فإن ذلك يعني أن هناك خللاً أكبر من أن يعالج، أما آن للفلسطيني أن يعد عمره بالأعوام وليس بالسنوات..!