يمر الفلسطينيون بظروف هي الأصعب على مشروعهم الوطني الذي بات مهدداً بشكل لم يشبه كل المراحل السابقة. فعلى الصعيد السياسي يبدو أن انغلاق الأفق أمامهم أصبح هو الحقيقة القائمة، وعلى الصعيد الإنساني باتت الحياة أكثر صعوبة، وعلى صعيد العلاقات بينهم باتوا يعدون سنوات الانقسام، وحالة من قلة الحيلة تكسو الخطاب العام الذي ينفصل أكثر عن واقع ما يجري على الأرض.
لا يمكن فهم حالة السكون الفلسطينية دون حراك على صعيد التشتت في سياقها الصحيح، فالأمر يصيب الفلسطينيين بنوع من دهشة الحزن للشكل الاستثنائي القائم لحالة التشظي المستمرة والتي لم تحركها كل الأحداث الثقيلة الماضية رغم جسامتها، ولم تستدعِ لحظة عقلانية واحدة تتطلب إنهاء هذه الحالة غير المنطقية تحت الاحتلال.
الخطر يطل بكل ملامحه بشكل واضح ولا يترك متسعاً لأي تفسير، حكومة إسرائيلية جديدة تعلن الحرب على كل الوجود الفلسطيني تفتح شهيتها للإجهاز على الضفة وتتوعد بضرب غزة وتقتحم القدس وتهدد بإنهاء السلطة وتشتيت الفلسطينيين وتضيق على الأسرى وتستولي على الأموال، كل هذه السياسات تنتجها أفكار دينية تعتبر الفلسطيني غازياً في هذه الأرض.
الخطر كبير ورد الفعل الفلسطيني لا يتناسب مطلقاً مع جسامته وهذا مدعاة لدهشة أكبر. ففي علم النفس هناك تفسير لعدم تناسب الخطر مع ردة الفعل إذ يعتبر العلم أن ذلك يحدث فقط في حالتين، فالطفل لا يُقدّر الخطر وكذلك المجنون وإذا ما أخذنا بالقياس العلمي فإما نحن أمام حالة طفولية في ممارسة السياسة أو حالة من الجنون فقدت عقلها. وفي كلتا الحالتين هناك ما يعزز في النتائج على الأرض من حالة عدم التناسب تلك رغم المحاولات التي لا يمكن تجاهلها ولكن النتائج مدعاة للإحباط.
في قطاع غزة الذي ينعزل عن العالم تجربة فريدة، فمن حالة أرادت أن تصنع المستقبل الفلسطيني لكل فلسطين وإذ بها تصل لحالة من التسول وشظف العيش، خمس حروب وقوة حلمت بتحرير فلسطين وإذ بها بعد خمسة عشر عاما تكتشف أنها لم تستطع رفع الحصار عن قطاع غزة في بيئة تكاد تنعدم فيها ممكنات الحياة الأساسية.
في الضفة الغربية حالة لا تقل فداحة حيث يحكم الفلسطيني نفسه تحت الاحتلال شاهداً على إجهاض الحلم ببناء وطن على هذه الأرض التي يأكلها الاستيطان بلا توقف وبلا مفاوضات، وحواجز تقطع المدن وتحدث بينها ما يكفي من التحلل لتبحث كل مدينة لنفسها عن برنامج يناسبها واقتصاد يئن تحت رحمة الاحتلال وإدارة مدنية تستولي على صلاحيات السلطة التي باتت مهددة بوجودها بعد التصريحات الواضحة لسموتريتش الذي يعتبر أن وجود السلطة زائد على الحاجة فهي تحكم في «أرض الشعب اليهودي – أرض التوراة».
الواقع على الأرض أكثر صعوبة والمستقبل مهدد بسيف هذيان الحكومة شديدة التطرف والتي تسعى لأسطرة الواقع وخلطه بالأساطير القديمة والدامية والتي تدور كلها تمجيداً بالانتصار على الفلسطيني والنجاح في طرده من فلسطين، تلك الأساطير التي كانت المادة التعليمية في المدارس اليهودية التابعة للأحزاب الدينية التي أدت لهذا الانزياح في المجتمع الإسرائيلي، هي المادة الفكرية لطلاب المعاهد الدينية التي انتشرت في العقود الأخيرة لحلب الحكومات والهروب من الجيش، كل هذه الثقافة تتحول مع هذه الحكومة إلى مرجعية فكرية للعلاقة مع الفلسطينيين.
زار بن غفير المسجد الأقصى وألغى تسمية القدس الشرقية ما يعني أن هناك برنامجاً أكبر للمدينة التي تسببت بثلاثة صدامات بين الفلسطينيين والإسرائيليين هي انتفاضة النفق والانتفاضة الثانية وحرب مع غزة بسبب مسيرة الأعلام. فقد أرسل بن غفير ما يكفي من الإشارات دون رد فعل فلسطيني يتناسب مع الخطر.
زار بن غفير سجن نفحة وأعطى تعليماته بالانقضاض على الحركة الأسيرة التي توعدها طويلاً، وها هو يحضر برنامجه ومعركته ضد الفئة الأكثر حضوراً في الوجدان الفلسطيني، يتجهز الإسرائيلي لفتح معاركه الشاملة لحسم المعركة ضد الفلسطينيين وهذه المرة بالضربة القاضية وليس بالنقاط كما كانت فعلت على امتداد العقود الماضية، هذه المرة البرنامج واضح وسريع بدأ منذ الأسبوع الأول وقبل اجتماعها الأول تلاحق الحكومة الزمن «لمعالجة آثار أوسلو» ولا يتوقف المشروع عند حدود الضفة وغزة والقدس بل سيصل إلى حدود الداخل، حرب حقيقية على كل الوجود الفلسطيني.
كل هذا وأكثر تنذر به الأيام والأشهر التي تخيم عليها أجواء من التشاؤم تكرسها حالة السكون الفلسطيني التي فقدت انفعالها وانكشف ذلك أثناء زيارة بن غفير للأقصى من قلة حيلة كانت السمة التي كشفتها الزيارة، كل ذلك يمكن مواجهته اعتماداً على شعب تمكن من مواجهة أعتى الأعاصير ...لكنه كان موحداً، كان هذا شرط البقاء الضروري على امتداد تاريخهم، أما دون ذلك فعليهم انتظار النهايات بنواحٍ خافت، الخشية من ذلك حقيقية خاصة أن ليس هناك ما يؤشر في ممارسة السياسة الداخلية على ما يحاول علاج ما انكسر من وحدة.