بينما تتضح أكثر فأكثر الطبيعة العنصرية الفاشية للحكومة الإسرائيلية التي نتجت عن الانتخابات الأخيرة، يتّسم الوضع الفلسطيني بسلوك «ستاتيكي»، تكثر فيه التهديدات والتحذيرات والمطالبات والشكاوى، وتكاد تنعدم فيه المبادرات ذات المغزى العملي.
الحكومة القائمة في إسرائيل، أسقطت عملياً كلّ التحفّظات السياسية والعملية، التي كانت تشكّل عاملاً فاعلاً يحول بين إمكانية تحويل خطابهم الذرائعي، إلى خطوات عملية نحو إعادة بناء القوة الفلسطينية، التي تتأسّس على إنهاء الانقسام، وبناء شراكات حقيقية جادّة تُراعي التطوّرات التي وقعت في الساحة الفلسطينية.
في إسرائيل، وانطلاقاً من مخاوف جدّية، إزاء مكانة إسرائيل، وحتى وجودها، الذي تعرّضه الحكومة للخطر، بدأت المعارضة بتصعيد نشاطاتها، وخطواتها الاحتجاجية، لا من خلال التصريحات وحسب، وإنما، أيضاً، من خلال تظاهرات وتحريض ومحاولات لعرقلة التوجّه الحكومي نحو إقرار المزيد من القوانين العنصرية، والإجراءات التي ستؤدّي وفق زعيم المعارضة يائير لابيد إلى انتفاضة فلسطينية شاملة.
ليس مطلوباً من الفلسطينيين أن يعلنوا الحرب على إسرائيل، وإنما المطلوب أن يوفّروا لأنفسهم مظلّة الحماية الوطنية، وتعزيز المقاومة بكلّ أشكالها، المدنية والسياسية والدبلوماسية وحتى العسكرية بما يتوفّر.
على قول: «ما حكّ جلدك مثل ظفرك»، ينبغي التأكد من أن لا العرب ولا المسلمين، ولا العالم، سيهبون لنجدة الفلسطينيين طالما لم يهبُّوا لنصرة أنفسهم.
خلال انطلاقتها الثامنة والخمسين، تأكّد مرّة أخرى أن حركة فتح، بخير، وأنها قائدة وحاضنة الوطنية الفلسطينية، وأنها لا تزال تحظى بشعبية واسعة، ومرّة أخرى بعد ثمانية وخمسين عاماً يتّضح أن تأسيس «فتح»، كانت فكرة عبقرية، لكونها حاملة المشروع الوطني، ومُعبّرة عن تطلعات الشعب الفلسطيني، وأنها تعكس في تكوينها كل فئات الشعب، بكل تيّاراته، واتجاهاته الفكرية والسياسية والعقائدية والاجتماعية.
في تكوين «فتح»، مبدأ قبول الرأي والرأي الآخر، وقبول الشراكة، وحق التعبير عن المواقف علنياً حتى حين لا تتوافق مع الموقف المُعلَن للحركة.
في زمنٍ سابق، كانت قيادات الحركة، من صفّ المؤسّسين تتبادل في اجتماعات عامّة، الشتائم، وحتى الاتهامات، والتعبير بعصبية عن الاختلاف، ولم يكن ذلك ليشكّل سبباً لخروج الحركة عن طبيعتها وفطرتها وفكرتها التأسيسية.
غَريبٌ عن الحركة، ما شهدته وتشهدها ويعكس ضيق سعة الصدر من الخلاف الذي أدّى إلى إقصاء العديد من قيادات الحركة على مستوى اللجنة المركزية والمجلس الثوري، والكثير من الكوادر الفتحاوية.
مُؤلمٌ المشهد الذي ظهرت فيه الحركة وهي تحتفل بانطلاقتها في ساحة «الكتيبة»، مع جمهور لم تتّسع له السّاحة، وملأ الشوارع المؤدّية إليها، في حين يظهر مشهد آخر في ساحة «الجندي المجهول»، لإشعال الشعلة، وأيضاً بحضور جمهور «فتحاوي» مهمّ.
فليعذُرنا «الفتحاويون»، ذلك أن مبدأ استجماع القوة وإنهاء الانقسام يفترض بدهياً أن يبدأ من إنهاء الانقسامات داخل الحركة التي يتطلّع الشعب لاستعادة وتأكيد دورها القائد للنضال الوطني الفلسطيني.
الذين اجتمعوا في «الكتيبة» وفي «الجندي المجهول» لإحياء الذكرى كلهم «فتحاويون»، بذات الأفكار، وبذات السمات، وبذات الانتماء الأوّل، وبما يؤكّد أن ما تعرّض له بعض أعضاء اللجنة المركزية من عقوبات أو إقصاء أو تهميش، لم يعد مسألة فردية أو ذاتية، فلكلّ من هؤلاء تاريخه، ومريدوه، ومساحته من التأييد.
خلال احتفالات الحركة بانطلاقة الثورة، قرأنا العديد من التصريحات لا يَفهم منها الإنسان شيئاً بسبب غموضها، فلقد صرّح الفريق جبريل الرجوب مُتوجّهاً «إلى كلّ الزعلانين من (فتح)، ولكلّ من صدر بحقّه قرار فصلٍ أو تجميد، عودوا إلى (فتح)، والأبواب أمامكم مفتوحة، وارفعوا سيف الحركة، وعلينا لملمة الخلافات (الفتحاوية)».
في المقابل، صرّح أمين سرّ (م.ت.ف) وعضو (ل.م) «فتح» حسين الشيخ أنّ الباب مفتوح لكلّ من يريد العودة لـ»فتح»، بشرط ألا يكون تآمر على الحركة».
المواطن الفلسطيني الحريص على «فتح»، وعلى المصالح الوطنية لا يعرف من الذي تآمر، ومن الذي لم يتآمر على الحركة من القيادات التي تعرّضت للفصل أو التجميد، أو التهميش، ولا يعرف المواطن، أيضاً، ما هو أساس دعوة الرجوب، إذا ما كانت موقفاً خاصاً، أم تعبيرا عن موقفٍ وقرار جرت مناقشته والاتفاق بشأنه داخل الحركة وفي أروقتها القيادية.
في كلّ الأحوال الدعوة مباركة، ولكنها تستدعي موقفاً واضحاً من اللجنة المركزية، والبدء بالتواصل والحوار مع المعنيين، لتجاوز ما جرى حتى الآن، الأمر الذي تحتاجه الحركة وهي تتوجّه نحو قيادة العمل الوطني لمواجهة المخطّطات العنصرية الفاشية للحكومة الإسرائيلية.
وحدة «فتح»، هي الخطوة الأولى المطلوبة والأساسية نحو استعادة وحدة الحركة الوطنية والإسلامية الفلسطينية، والمقدمة لتفعيل مطالبة الرئيس محمود عباس، القوى الوطنية للحوار مُجدّداً.
قضايا كثيرة ومهمّة تنتظر حركة «فتح» والحركة الوطنية والإسلامية الفلسطينية على طريق إعادة بناء القوة الفلسطينية، إن كانت ستبدأ من المصالحة «الفتحاوية»، ومن ثم المصالحة العامة وإنهاء الانقسام، فإن كلّ ذلك ينبغي أن يشكّل الأرضية السليمة والراسخة للإجابة عن أسئلةٍ أخرى مطروحة، يتحدّث فيها الإسرائيليون أكثر من الفلسطينيين.
يتعلّق الأمر بموضوع الخلافة في حال شغور منصب الرئاسة، وحتى في حال بقي الحال، فإن الشرعية الفلسطينية بحاجةٍ إلى تجديد، وبحاجةٍ إلى إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني من ذؤابة الرأس حتى أخمص القدمين، أي من المنظمة إلى السلطة إلى المجتمع، وبناء الشراكة من خلال صناديق الاقتراع، وإشراك الشعب في المسؤولية من موقع الحقّ الذي جرت مصادرته منذ سبعة عشر عاماً.