لا أعرف على وجه الدقّة حجم وطبيعة الوعي والإدراك الفلسطيني لدور العوامل الداخلية الإسرائيلية في بنية وعمق الأزمة في النظام السياسي في إسرائيل، ولا تأثير هذا الصراع على «تماسك» الدولة والمجتمع فيها، ولا حتى المدى الذي ستتركه هذه الأزمة وتُؤثّر به في مستقبل الصراع بيننا وبين دولة الاحتلال والعنصرية، والتي تتحوّل بصورة متسارعة نحو الدولة الفاشية.
لن تنفع كل المناشدات، وكل التحذيرات من «مغبّة» الوصول السريع إلى لحظة الاشتعال الكبرى، ولن تجدي كل مفردات الخطاب الإعلامي في وقف هذا المسار طالما أن هذه الحكومة الجديدة في إسرائيل تُحكِم سيطرتها على النظام السياسي، وطالما أنها ماضية في «برنامج» الانقلاب على كامل تاريخ ومسار هذا النظام، وطالما أنها ــ أي هذه الحكومة ــ تخضع لتوازنات القوى بين مكوّناتها، وطالما أن هدف نتنياهو هو إخراج نفسه وعائلته من تبعات المحاكمة حتى لو أن ثمن ذلك هو الطوفان بعينه.
ولن تتراجع «المعارضة» عن الصدام مع هذه الحكومة على أوسع نطاق، وبكافة الأشكال المتاحة «حالياً» والتي ستفرضها الأحداث مهما بدت «غريبة» وغير متاحة حتى الآن.
لن تتراجع هذه المعارضة بالرغم من كل ما تنطوي عليه من خلافات واختلافات، لأن الصراع في طوره الجديد، وفي هذه المرحلة مختلف نوعياً عن أي مرحلة سابقة، وعن كل أشكال الصراع السابقة.. لن تتراجع لأن «اختطاف» الدولة الإسرائيلية، أو «استرجاع» هذه الدولة هو موضوع الصراع وعنوانه، وليس «مشكلات» تداول السلطة فيها.
أقصد أن «المعارضة» بكل تلاوينها وأطيافها، وعلى اختلاف منطلقاتها وأهدافها لا ترى في الحكومة الجديدة مجرّد حالة تطرف قصوى، أو مجرّد حكومة مغامرة قد تكون لمغامراتها ولتطرفها بعض الأبعاد والتبعات الخطيرة في المحيطين الإقليمي والدولي، أو بعض الاختلالات الداخلية.
«المعارضة» باتت تُجمع، وربما وأكثر من أي وقت مضى، بل وربما، أيضاً، للمرة الأولى في تاريخ إسرائيل كله.. على أن المعركة التي تدور رحاها الآن، والتي ما زالت في ــ بدايتها الأولى في الواقع ــ هي معركة ستتحدد في ضوء نتائجها فيما إذا كانت إسرائيل ستغدو دولة دينية متعصّبة وتحاول أن تُبقي للتغطية على «دينيتها» وتعصّبها وتزمّتها على بعض المظاهر المدنية، وعلى بعض «المظاهر» الشكلية للديمقراطية أم أن هذه الدولة ستضع حدّا حاسماً ونهائياً لمحاولات جرّها إلى هذا المستنقع، والخروج منه، والإبقاء على كونها دولة مدنية من حيث الجوهر، ولكن دون أن تغادر كونها دولة «إثنية» الطابع العام، وعنصرية في جوهرها، وربما دولة احتلالية تتنكّر لحقوق أكثر من سبعة ملايين فلسطيني يعيشون بين النهر والبحر على كامل الأرض الفلسطينية.
أي أن «الصراع» الداخلي في إسرائيل الذي دخل هذا المنعطف، وهذا المختنق بالأحرى، ووصل إلى هذا المستوى من الصدام هو صراع على طبيعة الدولة، وعلى طبيعة النظام السياسي الذي سيحكمها، وليس على سياسات هذه الحكومة أو تلك، وليس على برامج سياسية، ولا على توجهات حزبية ولا على أي شيء من كل هذا القبيل.
هنا يُطرح السؤال التالي:
هل ثمة علاقة، الآن وفي المدى المنظور ما بين تحقيق أهدافنا الوطنية، وما بين هذا الصراع الذي وصل إلى مرحلة جديدة هي مرحلة ما قبل الاشتعال؟
وهل ثمة صلة مباشرة ما بين «التعبئة العامة» التي تُحضّر المعارضة الإسرائيلية نفسها لها وما بين بقاء الدولة التي يجري العمل على «استعادتها» على نفس المواقف العنصرية، وعلى نفس الأرضية الاحتلالية؟
أو بصيغة أخرى: هل ستتمكن المعارضة الإسرائيلية من «استعادة» الدولة التي يجري «اختطافها» على قدم وساق من القوى القومية والدينية التي تحولت في الواقع وانتقلت إلى مصاف الفاشية دون أن تتخلّى ولو بالتدريج في إطار «عملية» موضوعية وضرورية وإجبارية عن التماهي مع برامج اليمين القومي والديني (الفاشي)، والدخول في «صدام» مع هذه البرامج و»الالتقاء» مع الحركة الوطنية الفلسطينية في مساحة جديدة من منتصف الطريق؟
يجدر هنا أن نوضح أن مفهوم منتصف الطريق لا يعني بالمطلق أنه عادل، أو منصف، أو مقبول، لأن استخدام منتصف الطريق هنا يخدم ويهدف إلى توضيح التغيّر الذي نحاول رصده في طبيعة الصراع الداخلي في إسرائيل، والتبعات التي ستترتّب عليه، والآفاق المستقبلية المفتوح عليها.
لا أظنّ أن الفكر السياسي الفلسطيني بواقعه الذي لا «يسرّ صديقا.. ولا يغيظ عدوا» يمكن أن يكون جاهزاً الآن، ولا في المدى المنظور لمعالجة مثل هذه الأمور بنضج واقتدار.
ولا أظنّ، أيضاً، أن الحركة الوطنية الفلسطينية، بدءاً من الداخل الفلسطيني، ومروراً بالأرض الفلسطينية المحتلة والمحاصرة، وانتهاءً بكل قطاعات شعبنا في «الشتات» تولي مثل هذه المسائل الأهمية التي تستحقها، والأولوية التي يُفترض أن تحتلها مع كل أسف.
الدليل على ذلك أن «غالبية» معينة لا ترى لهذا الصراع الذي بات على حافّة الاشتعال في إسرائيل أي أهمية تذكر، ولا ترى فيه «عملية» موضوعية نابعة من أزمة المشروع الصهيوني، ولا ترى في قواه المحرّكة سوى مجموعات صهيونية صمّاء، ولا ترى أي إمكانية لأن يكون هذا الصراع حالة نوعية جديدة من أزمة المشروع الصهيوني ومن اختناقه ما دام هو على هذه الشاكلة من التماهي مع «الحق الإلهي» الذي يؤسّس لحقوق «تاريخية» زائفة تتناقض بصورة صارخة مع أسس العدالة وحقوق الإنسان، والقانون الدولي الذي يفترض أن تتبناها أي دولة مدنية.
غالبية هؤلاء يرون هذا الصراع على طريقة «اللهمّ اضرب الظالمين بالظالمين»، أو الشعور «بالتشفّي السياسي» وليس برصد حركة المجتمع الإسرائيلي.
مقابل هذا النوع من الأغلبية، توجد «أغلبية» من نوع مقابل هي «انتظارية» من حيث الجوهر، وهي مرتهنة من الزاوية العملية والواقعية (لعلّ وعسى أن يؤدي هذا الصراع إلى حلّ جذري للصراع بيننا وبين تجلّيات المشروع الصهيوني بِرُمَّته).
وما بين من يرى في الصراع الداخلي الإسرائيلي مسألةً «داخلية» ليس لنا علاقة مباشرة بها، وما بين من يرى أنها هي بالذات من «ستشيل الزير من البير» يوجد ما يجب التفكير به، وما يجب أن ندرك تبعاته وأبعاده وآثاره، وما يجب أن نعمل عليه.