خلال المفاوضات السرية في أوسلو عام 1993، تقدم الطرف الإسرائيلي بشكل مفاجئ بعرض فكرة خروج قواتهم كليا من قطاع غزة، كمرحلة أولى فيما سيأتي من انسحابات، دون ربطها بأي أرض فلسطينية في الضفة والقدس، ولكن "قيادة العملية التفاوضية برئاسة الخالد ياسر عرفات" طالبت بأن يكون الانسحاب مرتبط ببعض مدن الضفة، وهو ما لم يوافق عليه الطرف الإسرائيلي.
ولاحقا تم الاتفاق على الخروج النسبي من القطاع ومن أريحا، ما عرف إعلاميا بـ "اتفاق غزة - أريحا أولا"، ولكن لم تخرج قوات الاحتلال من قطاع غزة، وكان واضحا أن العرض يكشف جوهر المعركة القادمة تفاوضيا، بأن قطاع غزة ليس جزءا من "المشروع التهويدي"، ولن يكون بل الخروج منه يمثل راحة أمنية من بقعة صغيرة جدا بها كثافة سكانية كبيرة جدا، وأيضا سياسية.
موضوعيا، لم يكن يوما قطاع غزة هدفا مركزيا فكريا للحركة الصهيونية، بل هدفا عدوانيا لأسباب أخرى، ولذا جاءت خطة شارون عام 2005 الخروج من قطاع غزة، دون تنسيق مع السلطة، خلافا لاتفاق أو تقدير للرئيس المنتخب حديثا محمود عباس، ليشير بوضوح لما سيكون لاحقا، بأن الهدف المركزي بعد المواجهة الكبرى 2000- 2004، واغتيال الخالد ياسر عرفات وتدمير البنية التحتية للسلطة الفلسطينية، وتوجيه ضربة قاسية لحركة فتح أجهزة ومؤسسات، مقابل تعزيز قوة حماس، مؤشرا موضوعيا للقادم السياسي.
بعد وصول تحالف الفاشية المستحدث (الديني – العلماني) بقيادة نتنياهو – بن غفير – سموتريتش ودرعي، نشرت حكومتهم خطوطا عريضة، جوهرها تهويد الضفة الغربية والقدس، واعتبارها جزء من "ارض إسرائيل"، ومن بها سكان لها حقوق دون المواطنة، وأعلن ذلك أيضا، بوضوح مطلق وبلا أدنى ارتعاش مندوب الكيان العنصري في كلمته أمام مجلس الأمن يوم 5 يناير 2023.
هدف المركزي الواضح المحدد، أرض الضفة والقدس تهويدا وتورنة، ولا يوجد بالمطلق اهتمام بقطاع غزة، سوى بما يعزز خطة الانفصال وتكريسه كونه من حيث الأساس هدفا إسرائيليا واضحا، ويعتبر استمراره شرطا وقاطرة لفرض المشروع التهويدي في الضفة والقدس.
خلال الأيام الماضية خرج البعض فجأة، ليتحدث عن "عدوان مرتقب" على قطاع غزة، وتعزز الأمر بالحديث عن رسائل وتهديد متبادل، رغم أن قادة جيش الاحتلال العسكري أعربوا علانية عن تقديرهم الكامل لحالة "الهدوء المطلق" الذي يسود المشهد، وأنه لا يوجد أي خرق يمكن اعتباره مسا وكسرا لالتزام حركة حماس بالاتفاق السري الذي تم بعد حرب مايو 2021.
ودون الذهاب لتفاصيل خاصة بطبيعة الاتفاق ومدى الالتزام المطلق، رغم أن قوات الاحتلال لم تلتزم يوقف اقتحاماتها وتدمير أراض زراعية شرق القطاع ومطاردة يومية لحركة الصيادين، فالمسألة المركزية للحكومة الراهنة، تخلو كليا من اعتبار قطاع غزة هدفا أمنيا مباشرا، ولعل تجربة حرب غزة في شهر أغسطس 2022، التي خاضتها حركة الجهاد ردا عسكريا على اغتيال القيادي تيسير الجعبري، وسط مهادنة حماس وترتيبها المسبق مع دولة الكيان، كما كشف رئيس حكومة الكيان السابق لابيد، مثلت معيارا جوهريا لترتيب العلاقة بين حكم حماس والكيان.
الحديث المفاجئ عن التهديد والتهديد المضاد، وتكبير قضية التهديد ضد حكم حماس في قطاع غزة، رغم انه لا يوجد دليل سياسي واحد عليه، يمثل موضوعيا خدمة مباشرة لهدف العدو بالتضليل وسحب الاهتمام من المركزي الى "فرعي وهمي"، وإلحاق ضرر مباشر بالتطورات الميدانية في الضفة والقدس.
وكي لا تستمر تلك "الضلالة السياسية" يجب الكف عن استخدامها بشكل يمثل انحرافا وحرفا للجوهري في المواجهة الحقيقية، واستبداله بزيف معركة، تخدم مخطط حكومة "الفاشية اليهودية المستحدثة"، التي لم تعد لغزا ولا طلسما سياسيا، بل كلام هو الأوضح منذ احتلال الضفة والقدس عام 1967، فلأول مرة تعلن حكومة إسرائيلية أن الضفة والقدس هي جزء من "أرض إسرائيل"، بما يمثل ضما فعليا وما سيأتي آلية لتنفيذه لا أكثر.
مناورة "الرسائل" و"التهديد" بين حين وآخر من حماس وفصائلها في قطاع غزة، لا يمثل خدمة للمعركة في الضفة والقدس، بل العكس تماما، وتبدوا أنها سحب اهتمام وتقديم خدمة مضافة للعدو، خاصة أن حماس تدرك قبل غيرها، أن كل الحروب التي سبقت، بعيدا عما أنتجته من "صفقات" بينها وحكومات العدو لتعزيز حكمها، لم تنتج سوى مآسي للناس وامتيازات لحكمها.
كي لا تستمر الخدمات المجانية، ليكف البعض عن الحديث حول تهديدات لفظية خادعة..ومن لديه قوة فلتكن ساحة المواجهة في أرض المعركة الحقيقية بالضفة والقدس، وليس غيرها، دون ذلك وجب التدقيق في غايات الانحراف الموضوعي عن مسار معركة لا يجب أن تصاب بوهن حماية لأرض دولة فلسطين.
دون حرب شاملة ومواجهة مفتوحة مع دولة الكيان العنصري، لا قيمة لأي كلام يصدر من "حكم حماس" تهديدا ووعيدا!