ما يجري في إسرائيل هذه الأيام، ليس وليد الانتخابات الأخيرة التي أنتجت بالضرورة، الحكومة الأكثر "يمينية" في تاريخ الكيان، والتي لا تدافع عن كونها حكومة عنصرية فاشية.
الممارسة العنصرية قديمة قِدَم قيام الدولة العام 1948، حيث مارست الحكومات الإسرائيلية على الدوام ومن دون توقّف سياسات وإجراءات تتّسم بالتمييز ضد الفلسطينيين، كهوية وممتلكات وحقوق.
العنصرية اتخذت طابعاً قانونياً، حين شرّع الكنيست قانون القومية، بعد حملة شنّها بنيامين نتنياهو وحزبه "الليكود"، لإقامة دولة يهودية ديمقراطية. صدّقها الأميركان، وصدّقتها دوائر غربية أخرى، من دون أن ينتبه كل هؤلاء إلى أن من المستحيل الجمع بين يهودية الدولة وديمقراطيتها، خاصة في ظل احتلال إسرائيلي للضفة الغربية والقدس وغزة، وفي ضوء وجود أقلية عربية كبيرة من مواطني الدولة.
حتى تصبح هذه الدولة ديمقراطية ويهودية، فإنّ ذلك يستلزم التخلّص من الأقلّيات غير اليهودية، وهم ليسوا الفلسطينيين فقط، وبالإضافة إلى ذلك إنهاء احتلالها وسيطرتها على الشعب الفلسطيني وأرضه، التي تعترف بها الشرعية الدولية.
شعار الدولة اليهودية الديمقراطية، لم يكن شعاراً لنتنياهو فقط، بل إنه استقطب معظم الحركات والأحزاب السياسية في إسرائيل، باستثناء القليل غير الفاعل منها.
هكذا فإنّ ما تشهده إسرائيل لا يعكس طبيعة التحوّلات السياسية والاجتماعية وحسب، ولا يعكس أزمة في النظام السياسي، وإنما يعكس أزمة المشروع الصهيوني الاستعماري، الذي دخل بقوّة في أزمة لا حلول معتادة لها.
هذا السياق، في تطوّر المشروع الصهيوني، يبدو طبيعياً، ذلك أن التاريخ قد يتواطأ، أو ينحني، لبعض الوقت أمام التزوير والخداع، لكنه سرعان ما أن يصحّح مسيرته، طالما أن عوامل كشف وفضح هذا التزوير موجودة، خصوصاً بوجود الشعب الفلسطيني صاحب الحق والأرض.
العنوان المطروح لأزمة العلاقة بين يهودية الدولة وديمقراطيتها، بأبعادها الاستعمارية تتجلّى اليوم، في المحاولات التي تجريها الحكومة لمصادرة استقلالية القضاء، الذي لم يكن مستقلاً في أي وقتٍ طالماً أنه كان جزءاً أصيلاً من المنظومة الاستعمارية.
أن يكون القضاء الإسرائيلي غير مستقل، استناداً إلى الطبيعة الاستعمارية للدولة شيء، وأن تجري مصادرته وإخضاعه للكنيست الإسرائيلي شيء آخر، كونه يمسّ النظام والمجتمع الاستيطاني، حتى لو أن ذلك لا تستتبعه آثار كبيرة على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة العام 1967، لكنه يستتبع آثاراً كبيرة ونوعية على الأقلية الفلسطينية في أراضي العام 1948.
إذا حاولنا استعراض السيناريوهات التي يمكن أن تشهدها الأزمة الشاملة التي تعصف بإسرائيل، فإنها تقع بين سيناريو استمرار هذه الحكومة، الأمر الذي ينطوي على توسيع وتفعيل دوائر المعارضة الداخلية والخارجية، مع صدور تشريعات تحمي المجرمين في الحكومة وعلى رأسهم نتنياهو، وبين تغيير محتمل.
في الحالة الأولى، فإن المعارضة بدأت تحركها عَبر وسائل الإعلام ومن خلال تظاهرات تتزايد أعداد المنضمين إليها، كما حصل يوم السبت المنصرم، حيث خرج عشرات الآلاف في تل أبيب والقدس وحيفا.
هذه التظاهرات والاحتجاجات المتزايدة من شأنها أن تعمّق التفكك المجتمعي، وأن تؤدي إلى تعميق حالة القلق بما قد يدفع البعض إلى الهجرة المعاكسة، بالإضافة إلى تعميق القلق والتناقضات بين إسرائيل والجاليات اليهودية في الخارج، واستفزاز بعض حلفاء إسرائيل التاريخيين.
سيبدو الأمر بالنسبة لحلفاء إسرائيل الذين يعتقدون أنها تشاركهم قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، أنه خيانة للنظام الديمقراطي، ومن شأن ذلك أن يستفز قوى مجتمعية في تلك الدول، إن لم يترك أثراً سلبياً على علاقات إسرائيل الدولية.
السيناريو الآخر، الذي يمكن أن يلجأ إليه نتنياهو، بعد أن ينجح في تغيير ومصادرة النظام القضائي، قد يدفعه إلى التخلّص بطريقة أو أخرى من العبء الذي حمله بتحالفه مع بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، وأن يقوم باستبدال حلفائه.
وفق هذا السيناريو، فإن إمكانية انضمان أحزاب أخرى، قائم، بسبب الطبيعة الانتهازية للأحزاب الإسرائيلية وزعمائها، الذين سيعتبرون ذلك نصراً لهم، بما أنهم نجحوا في تفكيك تحالف "اليمين المتطرف"، الذي ينطوي وجوده على خطرٍ كبير ينتظر الدولة.
إلى أن يقع مثل هذا السيناريو، فإن نتنياهو سيكون قد دمّر النظام القضائي، وهو يملك الأغلبية لتحقيق ذلك في الكنيست، وسيكون حلفاؤه الفاشيون قد ورّطوه وحكومته في أزماتٍ كبيرة مع الفلسطينيين ومع المحيطين الإقليمي والدولي، فضلاً عن تعميق الشرخ في المجتمع الاستيطاني.
ولكن لو نجح نتنياهو في أن يتخلّى عن حلفائه ويستبدلهم بحلفاء جُدُد فهل ستكون الحكومة قادرة على إخراج الدولة والنظام الاستعماري من أزمته التاريخية والحتمية. الجواب على ذلك، أن النظام الإسرائيلي لن يكون قادراً على إعادة عجلة التاريخ إلى الخلف.
وفي هذه الحالة، فإما أن تكون حكومة نتنياهو محكومة للسياسات المتطرّفة التي تضمّنتها الاتفاقيات الائتلافية، والتي تسمح للقوى الفاشية بأن تسعى لتنفيذ أهدافها، وإما في حال تبديل الحكومة فإن هذه القوى ستكون أكثر شراسة في مواجهة الحكومة.
في مطلق الأحوال، وبصرف النظر عن السيناريوهات الممكنة فإن الحكمة السياسية تقتضي من الفلسطينيين سواء في غزة حيث "المقاومة" بإمكانياتها موجودة وقوية، وفي الضفة، أن لا تسمح بالتدخل لتخفيف حدّة التناقضات الداخلية في إسرائيل.
ولكن الأمر سيختلف إذا بادر نتنياهو لتخفيف الأزمة الداخلية كالعادة من خلال شنّ حرب هنا وهناك، وهو قد يلجأ إلى ذلك، طالما أن الإسرائيليين يتوحّدون في مواجهة "خطر خارجي"، ولكن آنذاك سيكون الردّ الفلسطيني مبرّراً، واقلّ عرضة للانتقاد من قبل القوى الإقليمية والدولية.