قبل سنوات، كان «الوعي السائد»، فلسطينياً وعربياً، يستبعد تماماً فرضية «سقوط القلعة من داخلها». «إسرائيل تتمشرق»، هو عنوان حوارية امتدت لساعات جمعتني بالباحث المختص في الشأن الإسرائيلي الدكتور حسين أبو النمل في بيروت قبل عدة سنوات.
من آيات «تمشرقها» انتعاش هوياتها الفرعية، احتدام الصراع فيما بينها، الانقسام الديني العلماني وزيادة حدة الاستقطاب بين الكيانات والمكونات الإسرائيلية المتنافسة، إشكالية العلاقة بين الدين والدولة، تآكل أعمدة «الحكم الرشيد» واختلال التوازن بين السلطات، لصالح السلطة التنفيذية دائماً، هنا نفتح قوسين لنرصد الهجمة اليمينية على «المحكمة العليا» وتسلل الإيديولوجيات المتطرفة إلى المؤسسة العسكرية – الأمنية...من آيات «تمشرقها» كذلك سطوة السلطة السياسية على الإعلام، إرهاصات تشكل ميليشيات عقائدية سائبة وتراجع مكانة «سيادة القانون»، تفشي الدعوات لتطبيق «الشريعة اليهودية»، تسييس الدين وتديين السياسة (صهينة الدين وتديين الصهيونية)، فساد الطبقة السياسية واضطرارها لتفصيل قوانين وتشريعات على مقاس «نمر أحذية» أركانها، كما حصل عند تمرير قانون بن غفير وقانون سموتريتش وقانون درعي، في أول اجتماعات للكنيست 25، في تجسيد سافر لفكرة «الحكم بالقانون» عوضاً عن «حكم القانون».
المتابع للجدل بين الحكومة والمعارضة في إسرائيل سيجد أن أكثر العبارات شيوعاً في سجالاتهما هي «انهيار الدولة»، «حرب أهلية»، «تحريض على العنف والقتل»، «خراب الهيكل». هذه الظاهرات لم تبلغ خواتيمها بعد في إسرائيل، لكنها بدأت تتفشى وتتفاقم، ولعل من أطرف المفارقات التي شاهدتها قبل بضعة أسابيع، وأنا أتابع برنامجاً حوارياً على شاشة “I24News” الإسرائيلية، بين علماني ومتدين إسرائيليين، أن صديقنا العلماني لم يجد سوى عبارة «لا إكراه في الدين» للرد على دعوات محاوره من التيار الديني – الصهيوني، قالها بلسان عربي مبين، وبصورة تذكّر بما نواجه في مشرقنا من حوارات «بيزنطية» ممتدة منذ عشرات السنين، دون كلل أو ملل.
هذه الأسباب والظاهرات هي ذاتها التي حوّلت بعض دولنا المشرقية (إلى جانب دول عربية أخرى بالطبع) إلى دول «فاشلة» أو تقف «على حافة الفشل»، وقادت مجتمعاتنا إلى انقسامات واصطراعات لم تنجُ منها حتى يومنا هذا.. ولعل المتابع للجدل المحتدم الدائر بين الحكومة والمعارضة في إسرائيل سيجد أن أكثر العبارات شيوعاً في سجالاتهما هي «انهيار الدولة»، «حرب أهلية»، «تحريض على العنف والقتل»، «خراب الهيكل»، إلى غير ما هناك من تحذيرات تحتفظ بقدر كبير من الجدية، حتى وهي تنطوي على قدر من المبالغة المفهومة في سياق تنافس الأحزاب وصراعات مراكز القوى.
تنطوي تطورات من هذا النوع على نتيجتين كبريين: الأولى؛ انهيار أكذوبة «القيم المشتركة» التي تربط إسرائيل بالحضارة الغربية في مواجهة صحراء العرب القاحلة، ما قد يفضي إلى «نزع الشرعية» عن هذا الكيان، وتلكم نتيجة خطرة تنبهت لها مراكز بحث متقدمة في إسرائيل وعدّتها كتهديد لأمنها القومي، يلي مباشرة تهديد إيران وصواريخها وحلفائها.
والثانية؛ حفز موجات هجرة معاكسة، ستكون أشكنازية – علمانية هذه المرة، لنخب لا تطيق العيش في ظلال «الرابايات» و»أحكام الشريعة»، ولقد بدأنا نلمس مؤشرات أولى دالّة على هذه الوجهة، الأمر الذي سيسرع في مسارات تعميق هيمنة اليمين الفاشي، الديني والقومي، على الدولة والمؤسسة والمجتمع في إسرائيل، ويسارع في «تمشرقها».
وعي هذه التحولات والظاهرات بدأ ينتشر سريعاً في مختلف الأوساط السياسية والدبلوماسية، فلم تعد بحاجة لانتقاء عباراتك ومصطلحاتك وأنت تتحدث إلى أعضاء في السلك الدبلوماسي الغربي عن إسرائيل كما كان يحصل من قبل..اليوم تتحدث عن فاشيتها وعنصريتها دون أن تُواجَه بردود الأفعال الغاضبة المعهودة، وصمت مُحدثيك من أصدقاء إسرائيل وحلفائها الداعمين بقوة لتفوقها ينطوي على قبول، أو أقله، استعداد للقبول بروايتك وقراءتك.. هذا تطور مهم، ويمكن البناء عليه.
قبل سنوات، كان «الوعي السائد»، فلسطينياً وعربياً، يستبعد تماماً فرضية «سقوط القلعة من داخلها»، وأذكر حواراً عميقاً مع الراحل جورج حبش قبل عشريات أربع من السنين، حول الفرضيات المُؤسِسَة لخطاب الجبهة الشعبية السياسي والفكري، انصب حينذاك على «دحض هذه الفرضية».
الجديد اليوم، أن هذه الفكرة لم تعد مستبعدة تماماً في وعي وتفكير نخب فلسطينية وعربية، وإن كانت غير حتمية وغير تلقائية، فما زال لـ»الخارج»، بمختلف مكوناته، دور حاسم في تسريع هذه العملية وتقرير مصير المشروع.