قد تبدوا الكلمات الأربعة كلمات متقاطعة، تحتاج وسيلة لربطها، ورغم أنها ليس كذلك، فالرابط الأساس الجامع بينها، ما تحاول دولة الكيان العنصري فرضه واقعا بقوة الاحتلال، وعبر طرق مختلفة بمسميات "ديبلوماسية"، مستفيدة بشكل كامل من موقف الإدارة الأمريكية، التي تبيع "الوهم اللغوي" للطرف الفلسطيني مقابل كلمات ناعمة برفضها لموقف دولة الكيان.
يوم الثلاثاء 17 يناير 2023، أقدمت شرطة الاحتلال في محيط الحرم القدسي بمحاولة منع السفير الأردني من دخول المسجد الأقصى، لكونه لم ينسق لتلك الزيارة مسبقا مع قيادتهم، بناء على تعليمات إيتمار بن غفير الوزير المسؤول عن عمليات الشرطة، وتلك هي المرة الأولى التي تقدم عليها، تنفيذا لتوجهات حكومة "التحالف الفاشي الجديد"، في محاولة لفرض واقع حول مفهوم "السيادة" على الحرم القدس والمسجد الأقصى.
ورغم تعامل الحكومات الإسرائيلية السابقة، بأن الأردن هو المشرف على الحرم والمسجد والأماكن الدينية في القدس الشرقية، فما حدث ليس سوى أول إشارة لبناء واقع جديد، يتجاوز الواقع السابق، رسالة ربما لم تكتمل بدخول السفير، لكن المؤشر انطلق لما سيكون، ما لم يحدث جديدا واقعيا وعمليا.
رسالة العنصري بن غفير، لم تكن موجهة إلى الحكومة الأردنية ولا إلى الرسمية الفلسطينية، بل أيضا إلى الإدارة الأمريكية، التي أعلنت في وقت سابق إلى ضرورة احترام "الأمر القائم" في الحرم القدسي، خاصة بعدما حققت اختراقا لصالح الكيان في زمن سابق، تحت مسمى "اتفاق الكاميرات" أكتوبر 2015 كمؤشر لتقسيم زماني، وتلك بداية تغيير موقف أمريكا الجوهري من قضية القدس، التي استمرت منذ العام 1948، حتى 2015، بوضعها تعبير رسمي في وثائق وبيانات الخارجية الأمريكية (الحرم /الهيكل).
تغيير جوهري في الثقافة السياسية، والموقف الأميركي، مر مرورا سلسلا وناعما، دون اعتراض او غضب رسمي فلسطيني أو حتى فصائل لا تترك حادثا دون أن تدلو بدلوها، ولذا لم يكن مفاجئا أبدا، قرار الإدارة الأمريكية في عهد ترامب بنقل سفارة واشنطن من تل أبيب إلى القدس، لتنهي موقفها بعدم الاعتراف بواقع متعاكس كليا مع قرارات الأمم المتحدة منذ عام 1947 وحتى 2017، ورغم اعتراض الجمعية العامة على قرار واشطن بغالبية 128 دولة، وقبلها قرار مجلس الأمن رقم 476 عام 1980، بغالبية 14 صوتا وامتناع أمريكا عن التصويت، وكذا قرار 478 اللاحق، لكن إدارة ترامب ولاحقا بايدن لم تكترث، وواصلت قرارها.
ولذا، ما قامت به شرطة الاحتلال وموقف بن غفير قبل زيارة السفير وبعدها، كانت محاولة لتكريس الأمر الواقع لتهويد الحرم القدسي، بعدما اقتصر رد الفعل الفلسطيني والأردني ومعهما العربي على "خطوة احتجاجية مؤدبة"، مكتفين ببيان غير ملزم من مجلس الأمن رافضا سلوك شرطة الاحتلال، دون ذهاب الأطراف العربية لموقف يكسر حاجز "الانفعال الخجول"، بل حدث العكس عبر "منتدى النقب".
ولقطع الطريق على أي تطورات "غير محسوبة" بعد سلوك حكومة "الفاشية اليهودية المستحدثة"، سارعت الإدارة الأمريكية بإرسال مستشار الأمن القومي جاك سوليفان، ليبدأ باستكمال مخطط "الكاميرات" نحو تعزيز قرارها بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان، دون أن تدفع الثمن المشترط بذلك منذ قرار 1947، الذي منح القدس وضعا خاصا وتحت وصاية دولية، ثم تجاوز جوهر اتفاق إعلان المبادئ (اتفاق أوسلو) 1993، الذي وضع القدس شرقها وغربها لمفاوضات الحل الدائم، مع منع القيام بأي إجراء أحادي يمس قضايا تلك المفاوضات، ومنها المستوطنات والحدود واللاجئين.
زيارة سوليفان، ستقدم بعضا من "رشاوي سياسية" ليست بذي قيمة جوهرية للطرف الفلسطيني وكذا الأردني، مقابل حماية القرار الذي حدث بتكريس الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الكيان، وعلى طريق تغيير جوهر "الوصاية الأردنية" في وقت لاحق، بما يسمح بالذهاب إلى "تقسيم مكاني" في الحرم القدسي، انطلاقا من تكريس معادلة (الحرم/الهيكل) المستخدمة رسميا في الوثائق الأمريكية، ولم تجد من يرفض أو يعترض، بل بدأ وكأنها جزء من "اتفاق الكاميرات" مع الأردن والرسمية الفلسطينية خلال عهد أوباما والوزير كيري.
موضوعيا، المسألة المركزية على أجندة "سوليفان" ولاحقا وزير الخارجية الأمريكية بلينكن، ليس رسم ترتيبات "مؤتمر دولي" لحل الصراع، كما تحاول بعض الأطراف تسويق رحلة هدفها السياسي المركزي، امتصاص "الغضب الآني" وعدم كسر "حلقة التفاعل" ضمن معادلة الكلام، من خطوات قادمة لتكريس موقف وواشنطن من القدس، كعاصمة وحقوق "يهود" في الحرم وساحة البراق وحائطها.
وسريعا تجاوبت الحكومة العنصرية مع رغبة أمريكية، بوقف بناء وحدات استيطانية في جبل المكبر، كمبادرة "حسن نوايا" مقابل الجوهري المنتظر، إلى حين أكثر مناسبة لتنفيذ ما خططت.
وكي لا تصبح معارضة الكلام بغير ذي صلة، يجب أن يعقد الرئيس محمود عباس والملك الأردني وبالتنسيق مع الشقيقة مصر، خطوات عملية ومحددة في حال أي تجاوز تهويدي في الحرم وساحة البراق وجدارها، تبدأ من سحب السفيرين المصري والأردني من تل أبيب، وتعليق منظمة التحرير العمل بوثيقة "الاعتراف المتبادل"، كي مقدمة عملية لتطوير موقف رسمي عربي حقيقي في مواجهة تهويد القدس والحرم.
دون ذلك، كل ما سيقال حول القدس كلاما رافضا "عنتريا" صاخبا يصبح تصديقا للمثل العربي الأشهر وصفا لتلك الحالة "أسمعُ جَعْجَعَة ولا أرى طِحْنا".