«كيف سكنتنا أربعون عاما وارتحلت؟ وظل وجهك شاهرا مثل الظهيرة.. يا ابن النار والغابات أشهر وجهك الشعبي فينا كي نرى حيفا».. هكذا كان يكتب محمود درويش ليترك من الكلمات ما ستقولها أم ماهر يونس وهي تستقبل مهجتها العائد لتوه من أربعينية الموت كانت تأخذه في رحلة الحياة الساخرة من ملامح الشباب نحو تجاعيد الكهولة المرصعة بالفخر والكرامة.
كم أربعينية في العمر؟ واحدة فقط لا غيرها حين نحصي السنين ونسلخ منها طفولة عابثة وكهولة تقاوم يوميات المرض. لا يبقى سواها في العمر دفعها بابتسامة المنتصر وبحلم أصيب بالعطب في منتصف الطريق وهو يعود لواقع ما زالت أسوارها الشائكة تتطلب مزيدا من الصعود الدامي في رحلة الفجر الطويل. هكذا قال العائد حين ظن أنه سيخرج وقد حصل شعبه على الحرية ... لكنه ما زال يستدعي أربعينيات الأسر وأعمار الشهداء لمقارعة الغول.
كيف مرت أربعون عاما في صقيع الزنازين؟ كيف أمضى كريم وماهر يونس كل هذا الزمن يعدان الأيام والليالي لبقعة ضوء كم بدت بعيدة، لكن الثوريين يستولدون أملا خارقا من سيرة شعب عصي على النسيان، ما زال يطبع بصمته الحادة على وجه التاريخ الرديء الذي أصيب بتعطل مزمن في ضميره الغائب وهو يتابع كل هذا الظلم على هذه البقعة من الأرض.
في رواية الكاتب الكبير إلياس خوري «باب الشمس» أطلق على بطله في الرواية اسم يونس، ذلك البطل الذي يترك عائلته في دير الأسد ويهاجر نحو الجنوب ليقود عملياته من هناك متسللا بين ضرورات الفدائي وضرورات الزوج، بين الواجب الوطني وبين نداء الإنسانية العاطفي والجسدي. فهل كان كاتبنا يفكر بعائلة يونس التي قدمت هذا النموذج في الصمود والأمل، أم أن تلك كانت مصادفة. وهل أن كل تلك مصادفات التسميات تستمد هويتها من صمود سيدنا يونس؟ أم أن للأسماء نصيبها واستحقاقها الذي يحملها إرثها وكأن على عائلة يونس أن تجد نفسها في بطن الحوت ...وكانت.
هذه عائلة تتوارث الكفاح كوصايا الأنبياء في مسيرتها الطويلة. الجد الذي أبعد العام 1950 والعم الذي استشهد مع القسام والأب الذي اعتقل لثماني سنوات كانت عمر الطفولة للابن ماهر الذي لم يسمح للصولجان أن يسقط ليحمله وسط المعركة مع سليل اليونسية التي تستعيد تراث الأنبياء ووصايا الراحلين صوب الجنوب وبوابة الشمس والعائدين من المعارك مثخنين بالأمل وظلم التاريخ وذوي القربى.
يا لهذا النهار الذي ينفتح على أشعة المدن الحالمة في الطريق إلى عارة التي غادرها كريم وماهر سليلي العائلة المجيدة منذ جيلين بعيدين عن برتقال يافا وكرمة العنب في الجليل، لم يمتصا رحيق الشوارع التي تفضي إلى شاطئ البحر الطويل نحو يافا، وميناء عكا ومدن وادعة تنام على هدير الموج وتحتضن أبناءها كما العصافير الصغيرة.
هل سيبقى الأسرى طويلاً هناك؟ هو السؤال الجارح المحمل بالعجز وقلة الحيلة أمام من تقدموا الصفوف ووضعوا سنوات عمرهم على أكفهم يعدون الأحداث بكل التوق لاستعادة الزمن في الجرح النازف شبابا وسنوات بل وعقودا أربعة كانت تحاكم خطأ التاريخ والذي يطل ساخرا ليعيد محاكمة الضحية من جديد. أي عصر هذا وأي عدالة أنجبتها هذه الأرض المعذبة من أن حمل المسيح الصليب على ظهره ليظل الصليب محمولا على كتف أبناء يونس وكل الأسرى كأن القدر يلعب لعبته غير العادلة.
كانت الوالدة تستعيد الرمز في كبرياء اللحظة وهي تعيد تتويج الابن بحماسة التاريخ المرصع بالمجد وعباءة الجد كمفتاح العودة للمنزرعين هناك، وقبل أن تغادر تسلمه الوصية المكتوبة بتضحيات الأجداد وطوق الياسمين وسيرة الذين سبقوا في الرواية بلا توقف، هي لحظة تختصر كل الحكاية بتفاصيلها وألوانها ومزاميرها ورائحة المكان غير آبهة بالزمان ولا بأربعة عقود انسلت خلسة بين يدي السجان القادم من موسكو أو صوفيا ليحرس أرض كريم وماهر من كريم وماهر ....لحظة تتداخل فيها الملهاة بالمأساة كي تصنع حزنا وفرحا أصبحا توأمين في التراجيديا الفلسطينية التي تجسدها ابتسامة كهل عائد للتو من المعركة ولم يلتفت لعقارب الزمن.
لكل حكاية أساطيرها، ولكل أسطورة تماثيلها التي تنتصب لتروي تلك الحكاية للزائرين مجردين من وهج اللحظة يتأملون ما سقط منها في ذروة المعارك والطعنات والسيوف التي حاصرتها وصهيل أحصنتها ونشوة المنتصرين وأنين جرحاها وعزيمة الرجال حيث كان ماهر وكريم يوزعان ما فاض من الإرادة ويقولان اجعلوا من سنوات عمرنا جسرا ليمر عليه الثوار كي ننتصر.
كانت الأم التي انتظرت ابنها وعاد .... تختصر وجع الغياب، كيف صمدنا كل هذا؟ كان الأمر بحاجة لمعجزة ولدت من تشققات الأرض وعرق أبنائها وقهر جبالها التي لا تحتمل صعود الغرباء، وعريشة لا ينام تحت ظلالها سوى أبنائها الذين تعرف صوتهم وملامحهم وثغاء ماعزهم ولكن الزمن لا يسير للوراء، هل رأيتم احتلالا ينتصر؟ تلك حكمة التاريخ لمن يقرؤه، فقد انكسر الاحتلال وانتصرت إرادة الشعوب كانت تلك معادلة ابتسامة كريم وماهر وجزع المحتل من وهج الاحتفال ومن العلم.