كنت في زيارة ضمن سياق صلة الرحم، بعد أن تراجع يوم الجمعة وسط زحمة الحياة ومتطلباتها عن أحد سماته المميزة للمجتمع الفلسطيني، حيث كان بمثابة اليوم الذي تجتمع فيه أفراد الأسرة وسط أجواء تفيض بالمحبة، يأخذ الكبير منهم والصغير مكاناً له في دائرة تتسع وتضيق حسب عدد أفرادها، والأسرة بمفهومها هنا تتمدد لتشمل ما لحق بها من مصاهرة، وحديثهم وإن طغت عليه الكثير من السياسة كون تفاصيل الحياة الصغيرة مجبولة بها إلا انه يحفظ لهم مساحة لتناول شؤون الأسرة بشكل جاد أحياناً وفي أحيان أخرى يطغى عليها جانب الهزل، مثل هذه الأجواء قلما تجدها في مجتمع آخر وإن تراجعت لدينا بفعل عوامل مختلفة إلا أنها تبقى أحد سماته التي كانت تميزه عن غيره، عودة على الزيارة، بينما كنا نتبادل أطراف الحديث طغى على المكان صوت طفل من الغرفة المجاورة، بدا وكأنه يتحدث هاتفياً مع شخص آخر طالباً منه ألا يتكلم أثناء قيادته للدراجة النارية، دفعتني الدهشة للسؤال: مع من يتكلم هذا الطفل؟، سيما وأنا أعرف انه في السنوات الأولى من المرحلة الابتدائية، جاء الرد سريعاً من أمه بأنه يتحدث مع أصدقاء له في "ببجي"، وراحت تعطي تفسيراً لنبرة صوته العالية بفعل السماعات التي يضعها على أذنيه التي تعزله عن محيطه، ثم أخذنا الحديث عن أصدقاء "ببجي" والانسجام القائم بينهم رغم التباين الكبير في أعمارهم.
رغم جهلي المطلق بقواعد اللعبة وطبيعتها، إلا أن تداول الكثير من الأخبار عنها وبخاصة ما يتعلق بسعي بعض الدول لمنعها قبل أن تذهب محاولاتهم أدراج الرياح، وتقارير المختصين بعلم النفس وما خلصت إليه من آثارها السلبية على سلوك الأطفال بصفة خاصة وما تلحقه بالشباب من حالة تصل بهم إلى مستوى الإدمان، في الوقت الذي إنبرت بعض الاصوات للدفاع عن اللعبة مدعية أنها تسهم في تنمية القدرات الفكرية، هذا الجدل الكبير حول اللعبة جعلني على معرفة ضمنية بها وجنبني الوقوع في سذاجة أخرى، كنت أتحدث مع صديق قبل سنوات ممن طالهم التقاعد المبكر في مرحلته الأولى، سألته يومها كيف يمضي وقته؟، أجاب في المزرعة أزرع وأنتظر موسم الحصاد لأبيع ما تنتجه الأرض لأشتري به ما تحتاجه المزرعة لتطويرها وتحسينها، أثنيت عليه بأن وجد طريقة يشغل نفسه بها سيما وأن العمل في الأرض ينعش الطاقة الإيجابية للمرء، ثم سألته عن أشياء تفصيلية تتعلق بالمياه وملوحتها المضطردة التي لم تعد معها صالحة للزراعة بعد أن تخلت عن صلاحيتها للاستهلاك الآدمي منذ سنوات، كانت إجاباته تحمل من الجدية ما لا تحتمل التشكيك بها قبل أن ينفجر ضاحكاً ويخبرني أن مزرعته هي من مقتنيات عالمه الافتراضي.
لعبة "ببجي" ذهبت بالحديث لمنتجات البيئة الرقمية التي باتت تسيطر على الكبار والصغار، حيث الأطفال يعيشون مع الألعاب التي تزدحم هواتفهم النقالة بها، ويعرفون كيف يحصلون على الجديد منها، ولديهم إلمام بمفاتيح التقنية الرقمية بما يثير الدهشة، فيما الشباب تأخذهم وسائل التواصل الاجتماعي إلى عالم آخر، يتنقلون في شوارعه وأزقته برشاقة العارف به وبكل جديد وصل إليه، يتابعون بلهفة ما تفتقت عنه قريحة العاملين فيه، وبإمكانهم الوصول إلى المعلومة بأيسر الطرق ودون مشقة تذكر، أما الجيل المتقدم في العمر الذي طرق أبواب وسائل التواصل الاجتماعي يعتمد على مساعدة ابن أو حفيد، ولا تخلو من طرفة كتلك التي ساقها الطفل عن جده الذي وجد في منصة اليوتيوب ما يشغل بها وقته، حين طالبهم الجد بأن يسارعوا بتخزين المواد الغذائية كون الحرب على غزة قادمة خلال ساعات قليلة، وحين سأل الطفل جده عن مصدر الخبر استند الأخير في إجابته على مقطع على اليوتيوب، حاول الطفل إقناع جده بأن المقطع قديم ويعود للساعات التي سبقت الحرب على غزة عام 2014 إلا أنه لم يفلح في ذلك، لم يتوقف الجد عن توبيخ حفيده إلا بعد أن جاء الطفل بأصل الخبر ممهوراً بتاريخه الأصلي.
الجدل حول منصات التواصل الاجتماعي وأثرها على السلوك الفردي والجمعي بين مؤيد لها ومعارض لن يتوقف، لكن الحقيقة التي لا يمكن لأحد تجاهلها أنها باتت واقعاً لا نملك القدرة على تغييره، ومن السذاجة تجاهل تأثيرها سيما وأنها باتت تتواجد معنا في تفاصيل حياتنا.