كما لم تكن المجزرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في مدينة نابلس، أول من أمس، الأولى التي يرتكبها جيش الاحتلال، فإنها لن تكون الأخيرة، ذلك أن كل أشكال الجرائم بحق الإنسانية، ترتكبها إسرائيل، ما دامت تحتل أرض وشعب دولة فلسطين، لكن مع ذلك يمكن القول إن منسوب العنف وجرائم القتل يرتفع وينخفض وفق الظروف الدولية والإقليمية، وارتباطاً بطبيعة الحكومة الإسرائيلية، وحجم المشاكل التي تواجهها داخليا وخارجيا، وحيث أن تقديرات الإسرائيليين أنفسهم قالت مع وصول حكومة بنيامين نتنياهو السادسة للحكم، مطلع هذا العام، بأنها الأكثر تطرفاً في تاريخ دولتهم، فإن التوقعات كلها قالت إن إسرائيل ستمارس عنفاً أعلى ضد الشعب الفلسطيني، وهذا يعني بكل بساطة، ارتكاب المجازر الصريحة دون مواربة، وحيث لم يعد ذلك توقعاً فقط، فإن الأرقام باتت تتحدث عن ذلك بكل وضوح، حيث وصل عدد الشهداء من المدنيين الفلسطينيين، الذين قتلهم جيش الاحتلال ومستوطنوه إلى أكثر من ستين شهيدا خلال نحو خمسين يوما، أي بمعدل يزيد على شهيد كل يوم.
وكأن إسرائيل بحكومتها الفاشية الحالية، تسعى لجعل مشهد القتل بحق الشعب الفلسطيني مشهداً يومياً مألوفاً وعادياً، وذلك فقط من أجل إشباع غريزة شهوة الدم، عند بعض وزرائها الذين ينظرون إلى الفلسطينيين، كما لو كانوا دُمى، أو مجرد كائنات، من حقهم أن يشنوا عليها حرب الإبادة، حتى يتسنى لهم العيش في بلاد لم تكن يوما لهم، بأمن وسلام، وهم بذلك لا يختلفون في شيء عمن سبقهم من قتلة وفاشيين، ارتكبوا بحق البشرية العديد من جرائم الحرب الإنسانية.
المهم، أن إسرائيل، يبدو أنها لا تقوى على العيش دون قتل، أو دون حروب، فهي ما أن تهدأ واحدة من ساحات الاشتعال في الشرق الأوسط، حتى تسارع إلى التسبب في إشعال منطقة أخرى، وهي كلما هدأ الحال في سورية، شدت حبل التوتر مع إيران، وحيث إن الحريق مشتعل منذ عام بعيداً نسبياً، أي بين روسيا وأوكرانيا، فإنه لم يهدأ بال لإسرائيل، التي تفضل الحريق هنا في الشرق الأوسط، وإسرائيل بحكومتها الحالية، ما أن تضطر إلى التهدئة أو تخفيف حدة التوتر في ملف، حتى تبادر إلى رفع منسوب التوتر في ملف آخر، وحيث كان مجلس الأمن قبل أيام على موعد لاتخاذ قرار رداً على قرار الحكومة الإسرائيلية بناء عشرة آلاف وحدة استيطانية، فقد اضطرت إسرائيل بعد تدخل أميركي، إلى سحب قرارها، والاكتفاء بشرعنة تسع بؤر استيطانية من أصل أربعة عشر كان قد اقرها الكابينت، وذلك لتهدئة الاحتجاج الأميركي، وبعد أن خشيت من عدم استخدام واشنطن حق النقض (الفيتو)، ووافقت على التسوية، بعدم الإقدام على إجراءات أحادية الجانب، مقابل بيان رئاسة مجلس الأمن، ها هي ترتكب تلك الجريمة بحق المدنيين في نابلس، سعياً وراء إشعال الميدان، على أعتاب رمضان.
وكأن بنيامين نتنياهو، وكما اشرنا في مقال سابق، بات بين نارين، نار شريكه المتطرف في الحكم، ونار المعارضة الأميركية لتجاوزه المستوى الاحتلالي الإسرائيلي السابق، والمستمر منذ 55 عاماً، لذا فهو يضطر إلى أن يحني رأسه للعاصفة الأميركية ريثما تمر، لكنه في الوقت نفسه لا يقوى وحى لا يرغب في أن يكبح جماح شريكه المتطرف، الذي يمارس الحكم لأول مرة.
لكن هناك عاملاً ربما يكون هو الأهم، من هذا الذي حاول من خلاله مثلث التطرف في الحكومة الإسرائيلية، ممثلا بكل من ايتمار بن غفير، وبتسئليل سموتريتش، وبنيامين نتنياهو نفسه، الظهور به بعد بيان مجلس الأمن، أي كما لو أنهم قد تراجعوا عن شهوتهم الإجرامية بحق الحياة للفلسطينيين، أو أن الضغط الأميركي يمكن أن يكبح جماحهم، رغم أن ابن غفير نفسه، اعتبر الصفقة التي تمت جيدة، حين قال بأنه يجب النظر للنصف الممتلئ من الكأس، وأن شرعنة 9 بؤر هو خطوة جيدة، رغم أنه طالب بشرعة 77 بؤرة استيطانية، ونقصد بالعامل أو الدافع الأهم، هو عدم الاستقرار الداخلي في إسرائيل، رغم نتيجة الانتخابات التي وضعت حدا لحالة التوازن التي كانت استمرت منذ العام 2019، في الكنيست، ورغم نجاح نتنياهو في تجاوز طموحات التطرف اليميني في مواجهة طموحات رفاقه من قادة الليكود، بزرع حقل الألغام، خاصة في وزارة الدفاع، ذلك أنه ما زال بحاجة إلى «تقويض» القضاء، ليفلت هو شخصياً من الإدانة التي لن تضع حداً لمستقبله السياسي وحسب، بل ستصم تاريخه كله بالعار.
ونتنياهو بحاجة لتقويض القضاء، حتى يضمن بقاء حركة شاس أيضا في الائتلاف الحاكم، وهو حتى يبقى رئيسا للحكومة، في آخر محطاته على الأغلب، بحاجة إلى أن يبقي على حالة التوازن بين الشركاء، بين رفاقه في الليكود، وشركائه في الصهيونية الدينية، وحزبي المتدينين المتشددين، وكل هذا بضمانته شخصيا، فهو بات الضامن الشخصي الوحيد لهذا الائتلاف.
ولأنه ثبت بالتجربة بأن ملف الفساد المرتبط به أولاً، ومن ثم ملف ما يسميه إصلاح القضاء، يعتبران نقاط ضعفه، فالملف الأول كان سبباً في مغادرته مقر رئيس الحكومة مدة عام ونصف، وملف القضاء سيظل يكبله، هذا إن لم يكن السيف الذي يقطع صلته بالحكم، لكل هذا فإن خطته عبر وزير العدل، تعتبر حاسمة ومصيرية، وهو بعد أن «ركب رأسه» حتى ضد نصائح رئيس الدولة، وضد الموقف الأميركي، وضد تظاهرات الشارع المستمرة منذ توليه الحكم، بإقرار الكنيست بالقراءة الأولى لخطة وزير العدل الإشكالية، بات بحاجة إلى ما يمكن أن يحرف به بوصله الضغط الداخلي عنه وعن حكومته.
وليس هناك وفق ما يعتقد أنسب من الدم الفلسطيني، يقوم عبره بحشد المتطرفين من المستوطنين وغيرهم، خاصة بعد أن بدأ المئات من مصوتي الليكود يشاركون في التظاهر ضد خطة الحكومة بتقويض القضاء، ولم يجد نتنياهو أنسب من الذكرى الخمسين للجريمة التي ارتكبتها إسرائيل بحق الطائرة الليبية التي أسقطتها في 21 شباط من العام 1973 فوق سيناء، وأودت بحياة أكثر من مئة مدني عربي وليبي، ولم تقف بسبب تلك الجريمة إسرائيل في قفص الاتهام، ولا سئلت حتى اليوم عن تلك الجريمة النكراء.
الحقيقة الواضحة وضوح الشمس، هي أن إسرائيل محكومة اليوم من قبل حكومة فاشية جداً، ليس في جعبتها غير القتل، وغير السير بخطى صريحة وسريعة على طريق التمرد على القانون الدولي، ومنه معاهدة جنيف، التي تنظر للاحتلال على أنه مؤقت، وأنه لا يجوز تغيير معالم الأرض المحتلة، والأهم هو الحفاظ على حياة المدنيين، لا قتلهم وارتكاب جرائم الحرب بحقهم بشكل متواصل وطوال 55 سنة متواصلة، كذلك واضح وضوح الشمس، بأن النظام العالمي والمجتمع الدولي، بما فيه أميركا، عاجز عن إنهاء الاحتلال، ولا يفكر بالتعامل مع إسرائيل كما يتعامل مع روسيا مثلا، ولا مع أي دولة يعتبرها خطرا على السلام العالمي، كذلك واضح بأن العالم العربي، لا يشكل أي كابح لنزعة إسرائيل الفاشية، فدول التطبيع لا تهدد ولا بأي خطوة مقابل ما تقوم به إسرائيل من جرائم، لذا فكل العزم معقود على الشعب الفلسطيني، ورده الذي يجب أن تكمل حلقاته واحدتها الأخرى، أي السلطة والفصائل وعناصر وأفراد المقاومة، والرد يكون بإنهاء الانقسام فوراً، بدل الاستمرار في مطالبة السلطة، بإغلاق أبوابها بيأس في وجوه الجميع.