توفي أحمد قريع أبو علاء... بعد أن أنجز كرئيس للوفد المفاوض الاتفاق الأولي الذي سمي حتى الآن على اسم المدينة التي جرى التفاوض السري فيها «أوسلو».
وفي حياته، وخصوصاً في الحقبة التي جرت فيها عمليات تطبيق الاتفاق وعنوانها الرئيسي إقامة السلطة الفلسطينية على جزء محدود للغاية من أرض الوطن، تقلد قريع مناصب رئيسية في السلطة، إلى جانب مناصبه في القيادة العليا لـ«فتح» والمنظمة، وكان أول رئيس مجلس تشريعي، وثاني رئيس وزراء بعد أن وقع تقاسم وظيفي فرضه العالم، وشرّعته المؤسسات الفلسطينية، ووضع ياسر عرفات ختمه عليه، رغم تحفظاته الكثيرة على الفكرة.
لم يكن أبو علاء وأبو مازن عرَّابيْ أو صانعيْ أوسلو عن الجانب الفلسطيني، صحيح أنهما قادا المفاوضات السرية مع الإسرائيليين، ولكنهما لم يكونا ليضعا خيطاً في إبرة دون علم عرفات وموافقته... كانت المفاوضات سرية، ولا يعلم بها سوى لجنة قيادية محدودة العدد، إلا أن خلاصاتها اعتُمدت، ونالت موافقة المجلس المركزي المخول بصلاحيات المجلس الوطني إلى حين انعقاده، وكان أن انقسم الفلسطينيون على أوسلو بين مؤيد ومعارض، إلا أن المؤيدين كانوا الأكثر فاعلية في المضي قدماً على طريق تنفيذها... أما المعارضون فمنهم من اكتفى بالتنديد، ومنهم من لاذ بالصمت، إلا أن الجميع وجد نفسه في خضم التجربة، وفي مواقع مختلفة.
سمي محمود عباس مهندس أوسلو، وبدرجة أقل سمي أبو علاء، أما عرفات... فكان كما هو دائماً عراب الشيء وعكسه، إذ فرد كوفيته على الاتفاق حين رعى توقيعه في واشنطن، وحين دخل انتخابات رئاسة السلطة على أساسه، إلا أنه كان وهو يبني السلطة يحضر لاحتياطي مختلف وهو الانتفاضة، ولكن المسلحة هذه المرة، وفكرته كانت «إن أتت أوسلو بالدولة فأهلاً وسهلاً، وإن فشلت أو حتى تعثرت فالثورة ينبغي أن تكون جاهزة».
في حياة الثلاثي القيادي لأوسلو عرفات وعباس وقريع، غاب عن المشهد الرسمي الإسرائيلي شركاؤهم عن الجانب الإسرائيلي، وأهمهم إسحاق رابين الذي أعدمه اليمين المتشدد وهو يغني للسلام في ميدان ملوك إسرائيل، وغاب شريكه بيريز بالتهميش، وذاب كالملح كل الذين سُمّوا في إسرائيل فريق أوسلو، لتحل محلهم سلسلة حكومات انقلبت على كل ما يتصل بالتسوية مع الفلسطينيين... ما تم، وما يمكن أن يتم.
صناع أوسلو... الإسرائيليون والفلسطينيون، وإن خاضوا المفاوضات السرية وحدهم إلا أنهم وما إن أعلن عن نجاح المفاوضات في الوصول إلى اتفاقات وتفاهمات ولنسمها أولية، فقد حدث أن اتسعت دائرة الشركاء، فاستولت إدارة كلينتون على النتائج وتبنتها، رغم أنها كانت على حساب الرعاية الأميركية لمفاوضات مدريد واشنطن، وأجمعت أوروبا على دعم التجربة والاكتفاء بدور الممول، وانبثقت عن المحاولة ما سمي اللجنة الرباعية التي ضمت القوى الدولية الأساسية... أميركا وروسيا وأوروبا والأمم المتحدة، أما العرب ودول الإقليم والعالم، فكانوا داعمين دون أن يكونوا شركاء.
وفي بداية التجربة التي سميت المشروع التاريخي، كان التبني الأميركي الذي يجر وراءه القاطرة الأوروبية وعلى نحو ما الأمم المتحدة، وانسجاماً يكاد يكون كاملاً مع روسيا في هذا الشأن، كان تبنياً كاملاً وفعالاً، ومن ينسى قدوم الرئيس كلينتون إلى أرض التجربة، وخطابه أمام المجلس الوطني في غزة، وإضاءة الشموع في بيت لحم كرسالة تبنٍّ ودعم للمشروع وغاياته، ثم من ينسى ما كان يردد عرفات من أقوال حول علاقته المستجدة بأميركا حيث قال... كنت أكثر رئيس في العالم زار البيت الأبيض، وإمعاناً في رفع الكلفة كان يضيف... وأنا أول من قال «لا» في البيت الأبيض كذلك.
بعد إعدام رابين، وربما قبل ذلك، بدأت تجربة أوسلو عداً تنازلياً غالباً، كان مخضباً بالدم، وكلما هبطت التجربة إلى أسفل درجة واحدة كان التبني الأميركي والأوروبي يهبط درجتين، إلى أن وصلنا إلى ما نحن فيه الآن... إذ تحولت آمال السلام التي ازدهرت مع التطبيقات الأولية لأوسلو إلى كوابيس تؤرق الفلسطينيين، وتتعب الإسرائيليين، وتقضي على أي محاولة للتقدم على طريق السلام، ولا حتى وقف التدهور الذي لم يعد يعرف أحد إلى أين سيصل.
آخر من غاب عن المشهد من صناع أوسلو كان أبو علاء الذي أدى مهمة لم يكن وحده من تطوع بها بل نفذ قراراً لقيادة وضمن تجربة كبرى... يمكن وصفها بالدولية.
كان، رحمه الله، حائط صد لكل ما كان يوجَّه لأوسلو من انتقاد، خصوصاً حين دخلت مرحلة الفشل التدريجي، وكان، رحمه الله، واحداً من جيش جرار تقوده حركة «فتح» ومنظمة التحرير، وعلى رأسها الشهيد ياسر عرفات.
توفي أبو علاء عن خمسة وثمانين عاماً، وكان قد شهد في حياته فشل المحاولة، إلا أنه فاز بضريح يطل على القدس، تاركاً ما لم يحقق لأجيال ستأتي.
ملاحظة... لو نجحت أوسلو وأنجزت قيام دولة فلسطينية... لَعُدَّ صانعوها أبطالاً... أما وإنها فشلت فالأمر مختلف.