يكاد لا يختلف اثنان على المشهد الهش الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية بفعل الممارسة الرديئة للسياسة الاجتماعية والمقاومة الرثة التي تنتهجها السلطة الفلسطينية الحالية، ولكن وفي مقلب آخر نجد شخصاً يدرك أبعاد المشكلة الحقيقية ويُمسك بالزوايا الأربعة للحل الحقيقي الجريء الذي سيقود لخلاص الشعب الفلسطيني من قيود الاحتلال، وهذا الشخص هو محمد دحلان الذي أطلق الحركة الإصلاحية في حركة فتح.
في مقابلته الأخيرة مع الإعلامية والصحافية المخضرمة جيزال خوري صنّف مكامن الضعف في ممارسات القيادة الفلسطينية الحالية، قيادة تلعب دوراً هدّاماً لا يرقى بأي شيء لطموحات وهواجس الشعب الفلسطيني، هذه القيادة التي رضخت بشكل مباشر للتجاذبات والابتزازات الاجتماعية والمعيشية والأمنية التي تمارسها سلطات الاحتلال مما جعلها رهينة سياسات الاحتلال التوسعية المتطرفة بأساليبها الاستيطانية والقمعية.
وقد انطلق محمد دحلان في مداخلاته من الواقع المرير الذي يعاني منه الإسرائيليون أيضاً في ظل حكومة يرأسها نتنياهو، حكومة ملئ بالمشاكل لكنها تميل إلى الدكتاتورية والتطرف أكثر مما تميل إلى الديمقراطية وحرية الرأي، أي أن القيادة الفلسطينية الحالية غير قادرة على مواجهة قيادة اسرائيلية مبتزة وقمعية وشيطانية محمية من أميركا وممنوعة من الغرق بطوافات الإدارات الأمريكية المتعاقبة.
ومن هنا فقد أطلق دحلان الثورة الحقيقية بتجرد وبموضوعية قائلاً "الأمر للشعب" والشعب الفلسطيني بالنسبة له هو الشرعية الوحيدة التي بإمكانها إسقاط كل مخططات إسرائيل للنيل من القضية المركزية، فكان واضحاً في كلامه، حل الدولتين أُجهض بفعل التعنت الاحتلالي وأصبح وهماً وسراباً تتاجر به القيادة الفلسطينية من جهة وقيادة الاحتلال من جهة أخرى، بل وأكثر، نعى دحلان حل الدولتين منطلقاً من قرارات الشرعية الدولية، فالحل هو الدولة الواحدة والاعتراف الإسرائيلي والدولي بحقوق الشعب الفلسطيني دون مراوغة أو حجج واهية أو ذرائع كانت تقدمها القيادة الحالية، فالمقاومة بالنسبة له ليست بالسباب والشتم وكيل القدح والذم لإسرائيل والدول العربية بل المقاومة هي بالنهج والتخطيط وبالفكر وباستمالة المجتمع العربي والدولي بطريقة ناجعة كي يعودوا عن نسيانهم بأن الشعب الفلسطيني هو المظلوم وليس الظالم وبأن الاحتلال غالباً ما ينجح في لعب دور الضحية فيأتي بطشه وبأسه كردة فعل تسارع الإدارة الأمريكية لتغليفها بطابع الدفاع عن النفس وعن الأبرياء.
في هذه المقابلة أظهر محمد دحلان قيادة حكيمة وتطلعاً مستقبلياً قلّ نظيره في هذه الأيام، الساحة للشعب والشعب يقرر الخطوط الحمراء، الكلمة للشعب والشعب يحدد إطار المواجهة، والأهم توجيه الدعوة لشد العصب الفلسطيني في كل القطاعات وتوجيه الصفعة بإعلان قيام الدولة الفلسطينية كما عليه في قرارات الأمم المتحدة وحشر المجتمع الدولي في زاوية القبول أو الرفض، فمن كان رفضياً كل هذه العقود سيبقى رفضياً وسيظهر على حقيقته أمام الجميع وبنقاوة الثلج وسطوع الشمس وهذا ما يُعرف بالمقاومة الإيديولوجية والديناميكية التي فسر عنها دحلان في مقابلته وهو الذي لم يترك مبرراً لأحد كي يتوجس منه، الرجل لا يريد كرسي الرئاسة ولا يسعى لأي منصب بل يريد مساراً جديداً متجدداً يضم جهود كل الأطراف والفصائل والقيادات داعياً الرئيس أبو مازن للعودة عن الخطأ الكبير وإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي كان من المفترض أن تعيد رونق الحياة السياسية والديمقراطية للساحة الداخلية الفلسطينية وأمام أعين المجتمع الدولي مما يُرجع فلسطين والقضية إلى الخارطة الدولية، فالرجل مترفع عن كل المناصب ومتعاونٌ إلى أكبر حد بما يُطلب منه فهو يريد فقط إنقاذ القضية والشعب من الوهن ومن براثن الاحتلال الخبيث الذي ما ترك انتهاكاً وتدميراً وتنكيلاً إلا وقام به.
اليوم أطلق دحلان انتفاضة عربية فلسطينية فكرية وروحية جديدة، الثورة ليست فقط بالبندقية بل أيضاً بالعقيدة الصلبة والإيمان بالقضية الأسمى وليس بحسابات الحقل والبيدر، الشعب الفلسطيني يحق له أن يقرر مصيره بانتفاضة جيوسياسية وإيديولوجية تتبنى كل ما يوجع الاحتلال ويكيل له الضربات السياسية والدولية التي تركعه وتقهقره، ولمن يراقب الساحة الفلسطينية ويتابع القضية المركزية يعلم جيداً أن محمد دحلان صاحب رؤيا متعددة الأبعاد ستقود إلى الانتصار الكبير وإلى فجر تستحقه فلسطين ويستحقه شعب أبي أراد الحياة فحارب الظلمات وعند الوصول إلى الهدف المنشود استراحة محارب وغصن زيتون من يد ياسر عرفات إلى يد محمد دحلان.