الكوفية: اعترف بالارتباك الذي اصابني والعديد من السياسيين والكتاب الفلسطينيين من الطروحات الجديدة للقيادي الفلسطيني محمد دحلان في مقابلته مع " سكاي نيوز عربية “.
فالرجل اربك أولا، تنظيمه، حركة فتح وقيادتها المتنفذة، وهو الذي تمتع بعضوية اعلى هي هيئاتها القيادية، ولا زال رغم اقصائه يتمتع بنفوذ داخل الحركة المشهد الفلسطيني ، وينسحب الامر على منظمة التحرير التي الحقت بسلطة تحت الاحتلال . فقد نقل السيد دحلان السردية الفلسطينية السائدة والتي راوحت في مكانها منذ ربع قرن ، بطرح رؤيته الجديدة لسقف النضال الفلسطيني من حل الدولتين الذي مات سريريا وواقعيا على الأرض الى فكرة الدولة الواحدة للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي على قاعدة المساواة الكاملة ، فهو يعيد بهذا الطرح الاعتبار للبرنامج السياسي الأول لحركة فتح بالدولة الديمقراطية ، كما انه ينقلب على مخرجات اتفاقات أوسلو الذي دمره الإسرائيلي وتوجه باغتيال ياسر عرفات ، ويفتح الباب للتراجع عن التعديلات القسرية التي أدخلت على ميثاق منظمة التحرير ، والاعتراف المجاني والاحادي بدولة إسرائيل دون ان يتحقق الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة . وهو بذلك في ظني يطرح قواعد جديدة للعلاقات الوطنية في اطارها الجبهوي القادم ، يمكن ان تساهم في اخراج الحالة الفلسطينية المترهلة والمتهافتة على فتات السلطة والاستقطاب الضار والجمود الكارثي الذي وصلنا اليه .
حسنا فعل السيد دحلان ، في انه لم يدخل في تفاصيل رؤيته الجديدة والتي حولها من مجرد قناعات شخصية الى مبادرة وطنية ، تحاول فتح نافذة جديدة في السقف المغلق الذي وصلته الحالة الفلسطينية برمتها ، وفي ذلك ادراك عميق وقراءة دقيقة وواقعية للتحولات الجارية في إسرائيل بانتقالها عمليا من إدارة الصراع الى تصفية الصراع بالضم والالحاق والتهجير القسري ، وكذا الامر في فهم التحولات الجارية في الوضع الدولي ، واليات النظام الدولي الذي أسس بعد الحرب العالمية الثانية ، مهما كانت نتائج الحرب الأوكرانية والصراع الصيني الأمريكي . كما انه قراءة واقعية وليس رغائبية للوضع الرسمي العربي الذي رفع من اجندته أولوية الصراع العربي الإسرائيلي على بقية الأولويات والتحديات التي تواجهه.
اربكني خطاب السيد دحلان الجديد ومعي أصدقائي اليساريين " الجذريين " فهو يعيد انتاج أطروحتهم التاريخية - الجبهة الشعبية تحديدا - والتي اهتزت كثيرا بتأويلات غامضة بعد قيام السلطة الفلسطينية وهي الدولة الديمقراطية العلمانية على ارض فلسطين التاريخية ، لكن التحدي المربك ان السياق الذي طرح فيه هذا الشعار ارتبط بتصورات عن مستقبل الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي ، وان انتصار حلفاءنا حتمية تاريخية ، تنتهي معه قاعدة الامبريالية المتقدمة إسرائيل ، وسنقيم على انقاضها دولة فلسطينية ديمقراطية علمانية اشتراكية ، يمكن ان يعيش فيها من يتبقى من اليهود بحقوق مدنية ، وكأن خمسين عاما من هذه الطروحات وكل المتغيرات الدولية والإقليمية لم تكن كافية لإدخال بعض التعديلات وتطوير الفكرة في بعد سياسي واخلاقي انساني جديد .
المسالة الأخرى التي تطرقت اليها المقابلة وهي إعلان انفصال دحلان عن الحالة السياسية الفلسطينية الراهنة وان لا مطمح ولا غاية له في أي موقع قيادي، لا راهنا ولا مستقبلا، وفي ذلك لعمري خديعة سياسية تنطلي فقط على السذج والساسة الهواة، فهو برايي اعلن استقالته من الاطار الرسمي للسلطة والحركة التي اختزلت قيادتها بمجموعة صغيرة من المنتفعين، وفهمي لطروحاته الجديدة انه باق ويتمدد في المشهد الفلسطيني الراهن والمستقبلي ، لكن عودته مشروطة بان تصل الحالة الإسرائيلية ورعاتها الى. طريق مسدود في مشروعها الكولونيالي الاحلالي، العاجز عن الإجابة على الأسئلة الوجودية، كيف يمكن تصفية شعب بملايينه السبعة على ارضهم ومثلهم في المنافي والشتات وبناء دولة على انقاضه، شعب يصر على المقاومة المستمرة رغم التضحيات والالام موجة وراء موجة ولم يستسلم. وفي رأيي ان المشروع الصهيوني برمته بات في مرحلة الازمة المتقدمة وانقسام سياسي ومجتمعي وثقافي، وعاجلا او اجلا سيخرج من بين الصفوف من يتقدم لبحث حل نهائي وتاريخي فيه من العدالة والانصاف للشعب الذي نكب في حياته ومستقبل أبنائه ولأجيال.
ما افهمه من الخطاب الجديد ان الرجل منفتح على كل الطروحات الواقعية التي تضع حدا لهذا الصراع الدموي المستمر منذ ما يزيد على سبعين عاما ، لكنه لم يشأ مصادرة الرؤى والطروحات الفلسطينية السائدة بما ذلك دعاة المرحلية لكن بسقف مفتوح على الدولة الواحدة لشعبين ، وفضل عدم الدخول في التفاصيل ، فمهمته كسياسي مسؤول وطنيا واخلاقيا ، هي المساهمة في الخروج من حالة الجمود والبلادة السياسية الضارة ، ورفع سقف الحوار الداخلي بفتح نوافذ امل توحد ولا تفرق ، التمهيد لإعادة بناء سردية فلسطينية جديدة ، تستند الى رافعة أخلاقية وإنسانية حضارية في مواجهة انغلاق وعنصرية صهيونية ترتقي الى مستوى الفاشية في تصورها لذاتها ولعلاقتها بالشعب الأصلي .