لم يكن طرح قائد التيار الإصلاحي "أبو فادي" في مقابلته قبل أيام على فضائية "سكاي نيوز" العربية بالغريب على نُخب الشعب الفلسطيني ولا على حركاته الوطنية والإسلامية ولا حتى على مجمل الشعب الفلسطيني، لكنه كان الأجرأ في تناول المحظور الذي حاول أصحاب المشروع الإستعماري "الصهيو غربي" في فلسطين دفنه ومنع تداوله وتحت يافطة دولتين لشعبين.
فمنذ عشرينيات القرن الماضي وحين تيقن الشعب الفلسطيني وقياداته المختلفة لطبيعة المشروع الإستعماري الغربي المتواطيء مع الحركة الصهيونية في فلسطين بدأ الصراع وبدأت معه طرح الحلول التي كانت تهدف لتعزيز المشروع الإستعماري وفرضه على أرض الواقع، وفي نفس الوقت طرح الفلسطينين والعرب حلولا إعتراضية أساسها أن هذه الأرض فلسطينية وملك حصري للشعب الفلسطيني وفي نفس الوقت سوف تستوعب العدد المهاجر من اليهود كمواطنين على الأرض الفلسطينية، لكن الظروف الإقليمية العربية والدولية كانت وفقا لموازين القوى تصب في صالح المشروع "الصهيوغربي" والذي فرض نفسه في عام 1948 بما يُعرف ب "النكبة" وتشكلت دولة "إسرائيل" على أنقاض اللاجئين الفلسطينين وعلى أنقاض الدمار والمجازر التي رافقت تمكين هذا المشروع من قبل العصابات الصهيونية المدعومة بقوة من الإستعمار الغربي وبالذات "البريطاني".
لاحقا تعزز هذا المشروع بإحتلال ما تبقى من الأرض الفلسطينية بما يُعرف بأراضي عام 1967 وبدأ الصراع يأخذ أبعاد جديدة نتيجة لظهور الثورة الفلسطينية المعاصرة التي أكدت من جديد على تمسك الشعب الفلسطيني بحقه في العودة وتقرير المصير، ومعه ظهرت شعارات متعددة تشمل تحرير كل فلسطيني من البحر للنهر كَ "جغرافيا" تستطيع أن تستوعب كل الموطنين فيها بما فيهم "اليهود" وتحت يافطة الدولة الفلسطينية الديمقراطية العلمانية.
إعلان منظمة التحرير الفلسطينية عام 1988 الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967 من خلال وثيقة الإستقلال الوطني الفلسطيني التي أعلنها الرئيس الخالد الشهيد "ياسر عرفات" في المجلس الوطني، فتحت نافذة ممكنة التحقق في حل الصراع الناتج عن المشروع الإستعماري "الصهيوغربي"، مما أدى لاحقا للتوصل لإتفاق "أوسلو" المرحلي والذي حدد خمس سنوات للتوصل لحلول نهائية اساسها دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران عام 1967 وعاصمتها القدس، المجتمع الدولي وجدها وعلى رأسه "الولايات المتحدة الأمريكية" وجدها صيغة مناسبة للحل وتبناها وبدأ قطار ما يسمى بِ "مشروع الدولتين لشعبين" لكن بدون إستخدام هذا المجتمع أسنانه الحادة لفرضه مما جعل من المفاوضات ومن مشروع الدولتين شعار سلام لِ "رفع العتب" يرافقه عملية إستيطان متسارعة في كافة الضفة الغربية والقدس.
فشلت "أوسلو" وفشل على الأرض مشروع الدولتين ولم يتحرك المجتمع الدولي لتحقيق شعاره بل ابقى تحركه في شكل "إدارة الصراع"، وإنسحبت "إسرائيل" من قطاع "غزة" بشكل منفرد في محاولة منها لجعل الكيانية الفلسطينية الممكنة فيها لا غير، ووصل لاحقا في ظل حكومة اليمين الديني القومي العنصري إلى مجرد البحث في "خفض التوتر"، بمعنى أن حتى مفهوم "الإدارة" غير ممكن مع هكذا حكومة ترى في الضفة والقدس هي منحة من "الرب" وهي حق حصري للشعب اليهودي، وبالتالي تسارع الإستيطان وأصبح الوزير المتطرف والفاشي "سموتريطش" هو حاكم "الضفة الغربية" قانونيا والوزير العنصري الشعبوي الفاشي "بن غفير" حاكم "القدس" أيضا بشكل قانوني.
ضمن المعطيات أعلاه أصبح الواقع يفرض نفسه بقوة على السياسية وعلى إمكانية وجود حلول واقعية قابلة للحياة وقابلة لأن يتم تحقيقها، لذلك جاءت تصريحات قائد التيار الإصلاحي "محمد دحلان" بطرحه مفهوم "الدولة الواحدة" لكل مواطنيها في هذا السياق، وهذا الطرح يُعتبر الأكثر واقعية والأجدر على مواجهة المشروع الإستعماري "الصهيوغربي" لأنه يضع المجتمع الدولي أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن يفرض شعاره المتمثل ب "الدولتين" على دولة الإحتلال التي صنعها، وإما أن يتجاوز مشروعه الإستعماري ويُقر بأن الأرض الفلسطينية من البحر إلى النهر لا يمكن أن تتسع إلا لِ "دولة واحدة" لكل المواطنين فيها، وفي نفس الوقت يضع القيادات الفلسطينية الرسمية وغير الرسمية أمام واقع جديد ومنطلق إستراتيجي قادر على التخلص من العباءة الفضفاضة التي لبسها والتي مقاسها لا ينسجم مع حجمها السياسي ولا الشعبي الفلسطيني ولا حتى في وقف الإستيطان عبر الشكوى المستمرة للمجتمع الدولي والجمعية العمومية على كثرة قراراتها بهذا الخصوص.
"محمد دحلان" قائد التيار الإصلاحي في حركة "فتح" لم يُفصّل طبيعة وشكل "الدولة الواحدة" ولا كيفية تحقيقها، وترك ذلك للنخب والقيادات الفلسطينية والحركات والأحزاب لكي تقوم بذلك، لكنه بهذا الموقف وضع الحقيقة على طاولة البحث والتمحيص والتدقيق، وأزال بشكل لا لبس فيه "تابو" مشروع "الدولتين" الكاذب الذي يتبناه المجتمع الدولي، وسيؤدي لاحقا أيضا لقلق حقيقي للمتخوفين من مفهوم "ثنائية" القومية، وهنا، إستطاع القائد "دحلان" أن يُحرك المياه الراكدة التي تعتري الصراع "الفلسطيني الإسرائيلي" من جهة، وفي نفس الوقت رداً على توجهات وزراء الضم والفاشية "بن غفير و سموتريطش" اللذان ومعهم مجموعة كبيرة من اليمين الرسمي والشعبي تعتبر أن قطاع "غزة" هي الكيانية الفلسطينية، وأن الضفة والقدس الشرقية جزء من دولة "إسرائيل" الجديدة، الدولة "اليهودية" التي تتحكم فيها شرائع "الهلاخاة"
فكرة وطرح القائد "محمد دخلان" ليست سوى البداية التي سوف ينطلق قطارها من محطة جديدة في تاريخ الشعب الفلسطيني تحسم معه فكرة التقسيم الجغرافي غير الممكن لجغرافيا "فلسطين" التاريخية والذي ثبت عبر عقود من الزمن أن هذه الإمكانية غير قابلة للتحقيق وغير واقعية، لأن مفهوم الدولة الواحدة هي منطق الحل ومنطق الممكن.