لا شك بأن المشهد الاقتصادي العالمي يعيش أوقات مُثيرة ومُتقلبة في غالبيتها بسبب آثار الكورونا والسياسات والقرارات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومات المختلفة، وأبرزها الولايات المتحدة الأمريكية، للتعامل مع الجائحة الاقتصادي.
ومنذ اتخاذ الحكومات المختلفة سياسات رفع نسب الفائدة لمواجهة التضخم الناتج جزئياً عن سياسات مواجهة الكورونا، ونحن نرى تقلبات ذات تأثير مضاعف على الاقتصادات المحلية والعالمية إلى يومنا هذا، فمثلاً شهدت مؤشرات أوروبا الاقتصادية يوم أمس انخفاضاً حاداً بسبب انزلاق أسهم البنوك التي اجتهد البعض بالادعاء أنها بسبب تداعيات انهيار بنك "سيليكون فالي" على المستوى العالمي بالرغم من انتهاء جزئي لقضية انهياره بتدخل الحكومة الفدرالية الأمريكية. فانخفض مؤشر Stoxx 600 لعموم أوروبا بنسبة 1.7% في منتصف التعاملات الصباحية، مع تداول معظم القطاعات والبورصات الرئيسية في المنطقة الحمراء. واصلت أسهم البنوك سلسلة خسائرها وانخفضت بنسبة 4.6%، يليها قطاع التجزئة الذي انخفض بنسبة 3.9%. وكان الدافع الرئيسي لهذا التدهور هو تراجع أسهم "كريدي سويس" بعد أن كشف البنك عن وجود "نقاط ضعف جوهرية" في تقاريره يوم الثلاثاء، وانخفض سعر السهم بأكثر من 21% بحلول الساعة 10.30 صباحاً بتوقيت لندن، كما نقلت شبكة "CNBC". لكن المظهر الرئيسي لما أسمته إدارة بنك "كريدي سويس" بأنه "نقاط ضعف جوهرية" هو قرار أكبر مساهميه، البنك الأهلي السعودي، عدم زيادة استثماراته في البنك، الأمر الذي يعكس مدى قوة وتأثير قرار البنك السعودي الذي قد يبدو في ظاهره على أنه قرار استثماري بحت يعكس توجهات البنك الأهلي فقط، لكن تفاصيل الأمور تكشف بُعد اخر.
وتعود قضية التدخل السعودي في البنك السويسري في شهر كانون أول العام الماضي حين البنك الأهلي السعودي بالاستحواذ على 9.9% من أسهم "كريدي سويس" لقاء 1.5 مليار فرنك سويسري (1.5 مليار دولار أمريكي)، ليُصبح أكبر المساهمين فيه وينقذه من تعثره (ولي محتوى على اليوتيوب كنت قد نشرته آنذاك تشرح بالتفاصيل تلك المرحلة وأثرها على الاقتصاد الأوروبي بشكل عام)، حيث عانى البنك على مدى السنة المالية السابقة (2021) خسائر متراكمة بلغت ذروتها في تسجيل خسائر قدرها 4 مليار فرنك سويسري في ربع سنة واحدة، ويرجع السبب الرئيسي في هذه الخسائر إلى الضريبة التي تُدفع مرّة واحدة وترتبط بإعادة هيكلة المصرف.
وبعد التدخل السعودي من خلال البنك الأهلي، واكب البنك السويسري، والذي يعتبر من أهم البنوك العالمية وأكبرها، المجريات والتطورات الاقتصادية والسياسات المتعلقة بالشأن المصرفي في سعي للنهوض من أزمته في العام الماضي واستمرار عملية إعادة هيكلته، إلى أن أعلن عمار الخضيري، رئيس مجلس إدارة الأهلي السعودي، صباح أمس إن البنك لا ينوي التوسع في استثماراته ببنك كريدي سويس السويسري لأكثر من 10%، معللاً ذلك بأن الاستثمار فوق الـ 10% في البنك سينتج عنه أثار تنظيمية معقدة بالنسبة للبنك الأهلي ناتجة عن سياسات حكومية الخاصة بالقطاع المصرفي في المملكة العربية السعودية، وفي أوروبا وسويسرا. وهذا التبرير لم يكن ليحمل هكذا نتائج سلبية على القطاع المصرفي الأوروبي وبالتالي اقتصاد القارة العجوز برمته لو أتي من مصدر آخر غير البنك الأهلي السعودي، فبنك "كريدي سويس" مملوك بنسب متفاوتة للصندوق السيادي القطري ومؤسسات مصرفية أمريكية عملاقة، ولم يكن لقراراتها زيادة الاستثمار من عدمه أي أثر يذكر بالرغم من عدم وجود معوقات "تنظيمية" لزيادة استثماراتها.
والسبب في أهمية قرار البنك الاهلي السعودي هو أنه يحمل أهمية إضافية كبيرة كونه أحد أكبر البنوك السعودية، ويمتلك صندوق الاستثمارات العامة -الصندوق السيادي السعودي-أكثر من 37.2% من رأسماله، وبالتالي قراراته الاستثمارية لحد كبير مقرونة باستراتيجية سعودية استثمارية تشمل رؤية صندوق الاستثمارات العامة السعودية التي ترتبط بشكل جذري مع السياسات الاقتصادية السعودية الرسمية.
وفي هذا الإطار تم بناء رد فعل الأسواق المالية الأوروبية والأمريكية، التي أخذت بعين الاعتبار الخلفية الاقتصادية للبنك الأهلي، حيث يعتبر الاقتصاد السعودي واحداً من أكبر الاقتصادات في العالم، ويحتل المركز الأول في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والعشرين عالمياً من حيث الحجم الاقتصادي، وينعم بالاستقرار السياسي والأمني، الذي يساهم في جعل السعودية موطناً للاستثمارات الأجنبية. كما أن المملكة تمتلك بنية تحتية متطورة وشبكة اتصالات قوية، بالإضافة إلى مؤسسات مالية متطورة، تحمل بقراراتها تأثيرات على مستوى اقتصاد العالم.
وتزيد التطورات التي تمر بها المملكة العربية السعودية من جميع النواحي بما فيها النواحي الاقتصادية، من أهميتها الاقتصادية العالمية، فبالإضافة إلى عضوية السعودية في مجموعة العشرين، وهي منظمة تضم أكبر الاقتصادات في العالم، تلعب السعودية دوراً حيوياً في تحقيق الاستقرار الاقتصادي العالمي، وذلك من خلال تعزيز الاستقرار في أسواق النفط وتوفير الطاقة الضرورية للاقتصاد العالمي.
ولعل أكثر ما يجذب الاهتمام العالمي بالاقتصاد السعودي ويجعله أكثر تأثيراً على الاقتصاد العالمي هو خطة التحول الوطني 2030، التي تهدف إلى تنويع الاقتصاد السعودي وتحويله من اعتماده على النفط إلى اقتصاد متنوع يعتمد على عدة قطاعات مما يجعل من الاقتصاد السعودي قوة اقتصادية أكثر أهمية في المستقبل، وأن تأثيره سيتوسع بشكل ملحوظ ليشمل المزيد من الدول والمناطق في العالم.
وموقف البنك الأهلي السعودي بعدم زيادة استثماراته في بنك كريدي سويس السويسري والمتزامن مع انهيار بنكي "سيليكون فالي" و"سيغنتشر" الأمريكيين (ولي مقال تفصيلي في الموضوع تم نشره يوم أمس الأول)، وتضارب التوقعات حول قرار الفدرالي الأمريكي في ختام اجتماعه ب 21 و22 من الشهر الجاري، أدى إلى انهيار أسواق الأوراق المالية في اوروبا، وحمل تأثيراً سلبياً واضحاً في سوق الاوراق المالية الأمريكية، وحتى تأثير سلبي أقل حدة لكن ملحوظ في أسواق تداول العملة الرقمية التي شهدت ارتفاعاً قبل ذلك بيومين نتيجة تدخل الحكومة الفدرالية لتسوية جزئية في قضية بنك "سيليكون فالي" . هذا الظروف دفعت الحكومة السويسرية التدخل من خلال مصرفها المركزي واقراض بنك كريدي سويس حوالي 54 مليار دولار في محاولة للتخفيف من القرار السعودي.
وتدخل البنك المركزي السويسري، وبالرغم من أن له عدة مزايا مثل المساهمة في منع انهيار الاقتصاد المحلي، وتقليل الأضرار الاقتصادية وحماية المودعين والمستثمرين إلا أن تكلفته عالية، وقد تؤثر على الميزانية الحكومية وتؤدي إلى زيادة الدين العام.
لقد بات من مُسلمات الاقتصاد العالمي والسياسة الدولية أن القرارات السعودية تحمل وزناً يعطيها من المساحة حرية أكبر في اتخاذ قرارات سياسية تخدم مصالح مواطنيها بشكل غير مسبوق، ولعل موقف السعودية الرافض للضغوطات الأمريكية حول انتاج النفط والمقاوم للتطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وعقدها لاتفاقية إعادة العلاقات مع إيران برعاية صينية، من أهم الدلائل على قوة واستقلالية القرار السعودي، المبني بشكل أساسي على قوة اقتصادها ورؤية قيادتها لدورها وبنيتها الاقتصادية والاجتماعية.