ظاهرة غير موجودة إلا في بلادنا، وهي أنّ أشرعة سفينتنا امتلأت بالرياح المواتية، إلا أنّها إمّا تراجعت إلى اتجاه عكسي، أو ذهبت في اتجاه بعيد عن غايتها، معرِّضة نفسها للغرق لسوء إدارة طاقمها.
وفي إسقاط مباشر لهذه الظاهرة على حياتنا السياسية، نجد انفتاح فرص قويّة للإفادة منها، إلا أنّنا بفعل خلل فينا نبدّد هذه الفرص فتكون النتيجة دائماً أن ندفع من لحمنا الحيّ بدل أن نقبض، وعلى الرغم من إدراك كلّ ذي عقل أنّ جميع إخفاقاتنا هي من صنع أيدينا، إلا أنّنا نغطّي أو نبرّر الإخفاق بأنّه من صنع أعدائنا الذين لا يكلّفون أنفسهم صناعة المصائب لأنّها تتوافر لهم كوجبة جاهزة رخيصة الثمن بل مجّانية وسهلة الهضم.
أكتفي بسوق مثال واحد يصلح لأن يكون مجمع حقائق ودروس. إنّه المثال الفلسطيني، الذي هو المفاعل الأكثر نشاطاً في إنتاج المآسي، والأكثر تأثيراً في مناخ الإقليم، والأشدّ تأثّراً بالأجندات الخطرة.
بؤرة الخطر اسرائيل
مركز الخطر هنا وبؤرته المركزية هي إسرائيل التي عجّلت الانتقال من حالة تسوية ولو مجحفة مع الفلسطينيين إلى حالة إنكار ليس لحقوقهم المقَرّ بها دولياً، بل لوجودهم القومي والسياسي، ليصل الأمر على المدى المتوسّط إلى التعامل معهم كسكّان أمر واقع. ليس لهم إلا مقابل ما تحتاج إليه إسرائيل منهم، كعمّال بالمياومة وكسوق استهلاكي، وإذا كان العالم ساعدهم في بلورة سلطة إدارية في غاية المحدودية، فليس لها من وظيفة سوى ما ترسمه إسرائيل وتحدّد أسقفه ومجالات عمله.
وإذا كانت حكومة إسرائيل الحالية هي التعبير المجسَّد والمعلن لكلّ ما تقدّم، فإنّ الأمر لم يعد مجرّد حكومة سيّئة ومنافستها حكومة أقلّ سوءاً، بل إنّ ما يجري الآن من صراع داخلي على مستوى الكلّ الإسرائيلي بمختلف ألوانه واجتهاداته وبرامجه، وإن تمّ الحسم لمصلحة طرف على حساب الطرف الآخر أو إلى تسوية تُفرض على الطرفين فيقبلان بها، فالإجماع الرئيس والحالة هذه سيكون على استبعاد الحلّ السياسي مع الفلسطينيين، ليظلّ مصيرهم رهناً بالمساحات التي تنتجها الحكومات، فلا يتجاوز حدّها الأقصى ما أعلنه نتانياهو من "إدارة ذاتية تحت السلطة الأمنية الإسرائيلية المطلقة، وليسمّوا ما نعطيهم دولة أو إمبراطورية حتى.
الفرق في الأسقف يظهر من خلال الفرق في السياسات، فحزب العمل الذي خاض أوّل تجربة تفاوضية مع الفلسطينيين، اندثر من الحياة السياسية الإسرائيلية إلى حدّ أنّه يصل إلى الكنيست بأقلّ عدد وبشقّ الأنفس، وأمّا الذين قالوا من اليوم الأوّل لبدء مشروع أوسلو "سنقضي عليه" فهم الآن وحدهم الجالسون إلى طاولة القرار، وإن تزحزحوا عنها فلأمور لا صلة لها بالتسوية مع الفلسطينيين.
الفلسطينيون وحلفاؤهم
أنتقل إلى الجهة الأخرى لأعرض حال السلطة الفلسطينية.
ليس صحيحاً أنّ الفلسطينيين بلا حلفاء ولا أصدقاء ولا داعمين ومؤيّدين. وليس صحيحاً أنّهم ضحايا لمؤامرة كونية لا أمل في مواجهتها وحسب، وليس صحيحاً كذلك أنّهم على حقّ فقط لأنّ خصمهم على باطل. نعم هم على حقّ في روايتهم وعدالة قضيّتهم، وأمّا خصومهم الذين ينكرون التاريخ والجغرافيا والوجود المتوارث من آلاف السنين فهم على باطل. غير أنّ الأمر ليس جدلاً وحسب يمكن أن يكسب الحقّ فيه بقوة الإقناع وحدها، بل إنّ الحقّ أن يمتلك أصحابه مؤهّل نصرته والفوز بمعاركه. وبهذا المقياس تُرى الحالة الفلسطينية على النحو التالي:
- رهانات متجدّدة على إخفاقات متتالية، وانقسام عميق في البرامج والأهداف ينتج صراعاً داخلياً شرساً يوشك أن يطال الجذور.
- عجز عن استغلال المساحات الواسعة التي تُفتح أمامهم، سواء من خلال الخصم، أو من خلال الأصدقاء.
النتيجة المرئيّة لذلك كلّه ما نراه الآن على أرض الواقع الفلسطيني من تراجعات فادحة في الشأنين الداخلي والخارجي، وهذا ما قصدته حين استقرّت صورة السفينة الممتلئة أشرعتها بالرياح المواتية ولكنّها إمّا.. وإمّا.. وإمّا لا تمضي في مسار طبيعي وصحيح.
السفينة الفلسطينية لها ما يشبهها عند كثيرين من العرب.