سجّل الأسرى إنجازاً جديداً في تاريخ صراع الحركة الأسيرة مع إدارة السجون ومن خلفهم حكومة الاحتلال وأجهزتها الأمنية، على طريق الانتصار بانتزاع حريتهم وحرية شعبنا الفلسطيني، جاء ذلك بعد أسابيع من إجراءات العصيان والتلويح ببدء إضرابهم الشامل، مسجلين صفحة مشرقة لنضالات الأسرى في باستيلات الاحتلال.
الجولة الصراعية الجديدة جاءت على خلفية إجراءات التنكيل والقرارات الدنيئة التي اتخذها الوزير الفاشي المتطرف «بن غفير» بحقهم، بعد توليه حقيبة الأمن القومي، وبذلك لقنت الحركة الأسيرة درساً بليغ الدلالة لقيادة الحركة الوطنية خارج السجن قبل أن تلقنه لإدارة السجن برئاسة بن غفير، بوحدة كلمتهم التي وحدت جميع المعتقلين من مختلف القوى السياسية والفصائل، وحدت أربعة آلاف وسبعمئة وستين معتقلاً على موقف وكلمة واحدة التزم بها الجميع بقرارات قيادتهم الموحدة على فهمهم لعدوهم ورؤيتهم لطبيعة المعركة التي يخوضونها ضد الاحتلال في هذه المرحلة، في ضوء اندفاع سلطات الاحتلال لكسر إرادتهم والنيْل من النموذج القدوة في عين الشعب، انطلاقاً من المنزلة التي يحتلونها كمصدر من مصادر فخره واعتزازه.
العبرة الرئيسة المستخلصة من انتصار الأسرى تتمثل بالتشارك في اتخاذ الموقف دون استفراد باتخاذ القرار، أو استقواء طرف على باقي الأطراف. لذلك لم يكونوا موحدين فقط، بل تم خوض نضالاتهم ومنها إعلانهم الإضرابات المتواصلة التي بلغ عددها ستة وعشرين إضرابا بإصرار وتحدٍّ وعبر التمسك بالوحدة الوطنية كشرط للانتصار، والذهاب للإضراب موحدين عليه جماعياً كشرط لتحقيق النصر، ومواجهة سياسة الاحتلال العنصرية المتعارضة مع القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف وخاصة الرابعة المتعلقة بالأسرى، مسلحين بقرار يستند إلى الموقف الجماعي في مواجهة رزمة إجراءات بن غفير الهادفة إلى كسر إرادة وعنفوان الحركة الأسيرة التي قدّرت خطورة المعركة وضرورات تحقيق الانتصار مستوعبة لغة الاحتلال ومبتغاه في تفريغ شحنة الفخر والاعتزاز الذي يكنها الشعب لهم، متفهمين أبعاداً أخرى من سياسة الاعتقال وخاصة ملف الاعتقال الإداري وملف الإهمال الطبي للأمراض المزمنة، والتفتيش المهين للأسرى ومنع الزيارات عن عدد كبير منهم، وسياسة عزل القادة، والنقل العشوائي بين السجون، وملف البوسطة والـ»معبار» وملف وضع الكاميرات في السجن المخصص للأسيرات على وجه الخصوص.
لقد سبق للأسرى الفلسطينيين في محطات عديدة أن قدموا لشعبهم نماذج ملهمة في الوحدة الوطنية وفي التزام بوصلة الوحدة الوطنية، وأبرز هذه المحطات كان في إنجاز وثيقة الوحدة الوطنية التي شكلت الأساس المقبول والواقعي لكل مبادرات وأوراق وتفاهمات الحوار الوطني.
يختلف مشهد الخارج والطريقة التي يُدار بها الصراع مع الاحتلال عن مثيله في السجون، حيث يظهر الخارج مكبلاً بقيود متينة أكثر قوة من قيود الأسرى الذين يبذلون جهودهم في كل حالة اشتباك يقررون فيها مواجهة الاحتلال لدرء خططه، أو في سبيل منع سحب مكاسبهم المتحققة دون إعداد الذات بصلابة من أجل إفشال سياساته أو تحقيق مكتسبات جديدة ودون ترك شاردة أو واردة يتمكن من خلالها الاحتلال من إيقاع الهزيمة بهم أو اختراق لحمتهم، بتحصين أنفسهم بالمناعة اللازمة ضد محاولات العدو تحقيق مآربه، بامتناعهم عن استقبال قرارات الخارج وفرماناته بما يمنعهم من استثمار تضحياتهم بصلابة موقفهم الموحد، بالاستناد إلى أولوية مواجهة الاحتلال على الانشغال بالخلافات الداخلية التي تستنزف قوى الخارج وتمنعه من رؤية المخاطر المحيطة.
المشهد القيادي في الخارج يظهر على النقيض من المشهد القيادي في المعتقلات، حيث إن التفرد بالقرار هو سيد الموقف في الحركة الوطنية، عدا التنكر لقرارات الإجماع الوطني المتخذة بالهيئات الشرعية عوضاً عن التسلح بها في مواجهة الاحتلال وحلفائه بما أظهر الحالة القيادية الفلسطينية وعدم حصانتها تجاه الفجوة الواسعة بينها وبين القاعدة.
لقد تكرس نهج قيادي يتجاوز الهيئات ومسؤولياتها ودورها، كما يتجاهل شركاء العمل الوطني فيعمل على رسم المواقف واتخاذ القرارات بشكل منفرد، بما يسهم في إلحاق المزيد من تفكيك الوحدة الوطنية وتفسيخ روابطها، خشية تكبيلها بمواقف مكلفة، تقف خلف الإصرار على الذهاب إلى اجتماع شرم الشيخ وقبله الذهاب إلى اجتماع العقبة دون حماية شعبية، ودون الحد الأدنى من التوافق الوطني وذلك ما يعرض ممثلي الشعب الفلسطيني لمزيد من الضغوط، مع معرفة أن الوظيفة المحددة لاجتماعات كهذه لا تتعدى الالتزام بالوظيفة الأمنية للسلطة في المقابل تتحلل الحكومة الإسرائيلية من التزامات شكلية محددة لها وتتخلى عنها قبل أن يجف الحبر الذي تُكتب به.