الكوفية: حدد أفلاطون على لسان معلمه سقراط قواعد المدينة الفاضلة وبين مثالية الجمهورية التي يقودها الفلاسفة بعلمهم وحكمتهم، إلا أن تعقيدات الدولة والحكم جعلت من جمهورية أفلاطون حلماً غير قابل للتحقيق حتى عند أولئك المحلقين بأحلامهم بعيداً عن الواقع وأبجدياته، وعلى خلاف جمهورية أفلاطون التي تلاشت بين أساطير الماضي تقدمت جمهورية جلعاد التي جاءت على وصفها الكاتبة الكندية الكبيرة مارغريت آتوود في روايتها "حكاية الخادمة"، وحظي المسلسل الذي حمل إسم الرواية ذاتها بمتابعة واسعة في أصقاع الأرض، وتصف الرواية المدينة الفاسدة التي يسيطر على مقاليد حكمها رجال دين مسيحيين بعد أن أطاحوا بالحكم الديمقراطي، وإن تمحورت الرواية حول الظروف المأساوية للمرأة في جمهورية جلعاد الفاسدة والتي تحولت فيها إلى مجرد جارية ووعاء للإنجاب في بلاط الحكام دون أدنى حقوق لها، زادت مبيعات الرواية بشكل كبير مع وصول ترامب إلى المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، والمؤكد أن مبيعاتها سترتفع بشكل لافت مع وصول الصهيونية الدينية للحكم في إسرائيل، ولعل مشاركة النساء وهن يتوشحن العباءات الحمراء ويرتدين أغطية رأس بيضاء، أسوة بالجاريات في مسلسل حكاية الخادمة، في المظاهرات الرافضة لتعديل قانون القضاء في إسرائيل فيه من الإيحاء الكثير على جمهورية جلعاد بقيادة سموتريتش وبن غفير.
جمهورية جلعاد الجديدة بقيادة الصهيونية الدينية أثارت المخاوف ليس فقط ما يتعلق منها بحقوق المرأة كما جاءت في رواية "حكاية الخادمة"، بل طالت فئات المجتمع الإسرائيلي المختلفة التي سارعت باللحاق بركب المظاهرات المناوئة للحكومة والرافضة للتعديلات القضائية، الإنقسام في الشارع الإسرائيلي وإن بدا بسبب التعديلات القضائية التي يرغب الإئتلاف الحكومي في إجرائها، إلا أنه أعمق من ذلك بكثير، ولا يمت بصلة للإنقسام المتعارف عليه داخل المجتمع الإسرائيلي بين اليهود الشرقيين والغربيين، ولا بين اليسار الذي تلاشى واليمين الذي زاد شراسة ووحشية، ولا يمكن تصنيفه أيضاً بالخلاف بين المتدينين والعلمانيين، بل بفعل الفاشية التي باتت تمسك بأركان الدولة، لسنوات طويلة إعتقد المجتمع الإسرائيلي أنه محصن من آفة تطرف الصهيونية الدينية وأن الفلسطينيين وحدهم من يدفعون كلفة هذا التطرف، لذلك لم ينتابه القلق حين أخذت الصهيونية الدينية تتمدد أمامه وإنحصر سباق الأحزاب بين التطرف والأكثر تطرفاً، لكن نيران التطرف تلك أحاطت به كما لم تفعل من قبل حين كشرت الصهيونية الدينية عن أنيابها بعد أن أمسكت بزمام الحكم.
ما تشهده دولة الاحتلال أقرب ما يكون للربيع العربي بنسخته العبرية، لم يشتعل الشارع فيها بفعل نيران أحرقت شاب من الفلاشا، ولم ينتفض رفضاً لفكرة توريث الحكم، ولم يتحرك على وقع سيناريو تم إعداده بشكل محكم من قبل أجهزة مخابرات غربية، لكن هي ذاتها الفوضى الخلاقة التي وجد فيها وسيلته لمواجهة جمهورية جلعاد الجديدة التي يعتلي عرشها سموتريتش وبن غفير، الفارق الوحيد أن الغرب الذي كان يصب الزيت على نيران الربيع العربي لا يفعل الشيء ذاته مع الربيع العبري، فالغرب لا يريد لهذا الإئتلاف الحكومي أن يمضي إلى أبعد من ذلك في مسار الفاشية كي لا تتحول جمهورية جلعاد إلى فتيل يشعل الأخضر واليابس، لكنه لن يعمل صراحة على الأطاحة به ولن يخرج وزير خارجية أمريكا ليقول "الآن تعني الآن"، على أي حال لم يجد المتظاهرون حرجاً في وصف ما يحدث بالفوضى بل أنهم منحوا أحد أيام المظاهرات الصاخبة لقب يوم الفوضى الوطني، فلا حرج في ذلك طالما الأمر يتعلق بمواجهة جمهورية جلعاد حيث يستفحل فيها الفساد والتطرف والفاشية .