ما تحدث به الرئيس الأميركي جو بايدن بطريقة مباشرة وبشكل لم يسبقه أحد من الرؤساء الأميركيين السابقين بشكل علني، أحدث حالة من الزلزال الاستراتيجي في الأوساط الإسرائيلية على مستوياتها السياسية والعسكرية والفكرية كافة، فكلام بايدن أنه " مثل العديد من المؤيدين الأقوياء لإسرائيل، أنا قلق للغاية، لا يمكنهم الاستمرار في هذا الطريق"، من الواضح أن الأوساط الإسرائيلية لم تقرأ هذا التصريح في إطار العلاقات الشخصية المتوترة بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وبين الرئيس بايدن، وإدارته الديمقراطية فحسب، بل عدّته صافرة إنذار حقيقية وواضحة بأن العلاقات الأميركية- الإسرائيلية في حالة الخطر، خاصة أن جو بايدن يعدّ نفسه صهيونياً ومحباً لـ"إسرائيل" على مدار محطات حياته السياسية، وهنا يُطرح سؤال مركزي: لماذا قرر بايدن التدخل بهذه الطريقة العلنية والواضحة؟ وما العوامل التي دفعته إلى ذلك؟
من الواضح أن قراءة الإدارة الأميركية لسلوك نتنياهو وحكومته السادسة بشراكة "الصهيونية الدينية" والحريديم، تظهر أن هذه الحكومة باتت تشكل خطراً استراتيجياً على المشروع الصهيوني برمّته كما أنشأته القوى الغربية المتلاحقة، بدءاً من بريطانيا العظمى ووصولاً إلى الولايات المتحدة الأميركية، فالغرب لم يفكر للحظة أنه يريد إنشاء دولة دينية لليهود في الشرق الأوسط، بل أراد الغرب دولة وظيفية استعمارية تشترك بقيمها ومبادئها وأسلوب حياتها مع القيم الغربية الاستعمارية والثقافية، لتوثيق حالة الترابط الوجداني بين الكيان المصطنع وبين الغرب الصانع، ولإتمام عملية السيطرة المطلقة عليه، كون الدور الوظيفي المطلوب منه، سيحتاج إلى دعم واستثمارات مهولة من قبل الغرب، لا يمكن إعطاؤها لكيان من دون الثقة المطلقة بأن هذا الكيان جزء لا يتجزأ من المشروع الغربي الاستعماري بكل ما يحمله من أفكار وقيم ومصالح، الأمر الذي عبّرت عنه مخاوف جو بايدن بطريقة غير مباشرة أن القيم المشتركة التي بُنيت عليها العلاقات المميزة بين "إسرائيل" والولايات المتحدة الأميركية باتت تتعرض لخطر فعلي.
ناهيك بتعريض حكومة نتنياهو السادسة مركبات القوة الداخلية للمشروع الصهيوني للخطر، وفي مقدمتها "الجيش" الإسرائيلي، العمود الفقري للأمن الإسرائيلي خارجياً، وبوتقة الصهر لخلق الهوية الإسرائيلية داخلياً، وتتم إقالة وزير "الجيش" يؤاف غالانت لمجرد تحذيره نتنياهو من مآلات التعديلات القضائية وتداعياتها على أمن "إسرائيل"، آخر معاقل العقلانية في حكومة نتنياهو، الأمر الذي جعل الأميركيين يفقدون آخر أمل لهم في إيجاد لغة حوار عقلانية مع حكومة نتنياهو.
وهنا برزت أهمية تحذير الكاتب الأميركي توماس فريدمان في مقاله في "نيويورك تايمز"، الذي وصف فيه نتنياهو بأنه الزعيم غير العقلاني الأول لـ"إسرائيل"، وحذر من أن نشاطاته تعرض المصالح الأميركية للخطر، وطلب إلى الرئيس الأميركي أن يقيم قناة اتصال مع "الجيش" الإسرائيلي للتأكد من أن الأمور لن تخرج عن السيطرة.
ولكن، في المقابل، رد نتنياهو على تصريح بايدن أن "إسرائيل هي دولة مستقلة تأخذ قراراتها بناءً على رغبة مواطنيها، وليس على أساس الضغوط الخارجية، بمن فيهم أصدقاؤها الجيدون جداً"، الأمر الذي يوضح أن استراتيجية نتنياهو الحالية للتعامل مع الموقف الأميركي مبنية على العزف على وتر دور الضحية المستهدفة من قبل إدارة بايدن بالشكل الشخصي، بسبب أن نتنياهو يحافظ على استقلالية القرار الإسرائيلي بعيداً من التدخلات الأميركية، الأمر الذي جعل نتنياهو دوماً هدفاً للإدارات الديمقراطية التي حاولت إسقاط حكومة نتنياهو مرتين سابقاً، الأولى، في عهد الرئيس بيل كلينتون والثانية في عهد الرئيس باراك أوباما، كما صرّح مصدر مقرّب من نتنياهو، وكذلك اتهم يائير نتنياهو أميركا بدعم التظاهرات ضد والده.
ولكن أمام هذه الاستراتيجية من قبل نتنياهو، تغيب الإجابة عن السؤال المركزي هل حقاً "إسرائيل دولة" مستقلة بعيدة من التدخلات الأميركية؟ وهل وصلت "إسرائيل" إلى مرحلة النضج إلى حد الاعتماد على توفير عوامل بقائها بقواها الذاتية؟
قد تطرب لغة الاستقلالية الإسرائيلية آذان اليمين المتطرف واليمين الديني المسكون بحالة من غرور القوة تجعله يعتقد أن "إسرائيل" قادرة على إدارة ظهرها للولايات المتحدة الأميركية، بل مهاجمتها على محاولة تدخلها في الشأن الداخلي الإسرائيلي، كما عبّر عن ذلك وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير بقوله إن "إسرائيل دولة مستقلة وليست نجمة على علم الولايات المتحدة الأميركية"، ولكن هذه اللغة لا تغير في الحقيقة الأساسية، أن "إسرائيل" مرتبطة وجودياً بالولايات المتحدة الأميركية وبالغطاء السياسي والاقتصادي والأمني والعسكري والتقني الذي تقدمه أميركا لـ"إسرائيل"، الأمر الذي أوضحه عاموس يادلين، رئيس شعبة أمان الأسبق، رداً على أعضاء الحكومة الإسرائيلية الذين يهاجمون تدخل الولايات المتحدة الأميركية بالشأن الداخلي الإسرائيلي: "على ما يبدو أن الإدارة الأميركية لن تبقى مكتوفة اليدين، وستذكر المغردين من أعضاء الحكومة كم هي إسرائيل مرتبطة بالدعم الأميركي، الفيتو في مجلس الأمن، المساعدات لموازنة الجيش، والالتزام بتفوّقه النوعي، والضمانات الاقتصادية، والدعم في حالة نشوب الحرب".
لذلك، لا يمكن لـ"إسرائيل" البقاء كـ"دولة" قوية من دون الدعم الأميركي اللامتناهي لها، فالعنصر المركزي في أمن "إسرائيل" هو العلاقات الوثيقة مع الولايات المتحدة الأميركية، التي تمنح القدرة لرئيس وزراء "إسرائيل" أن يرفع الهاتف للرئيس الأميركي في لحظة الحقيقة، حين يكون هناك موضوع حساس في جدول الأعمال أو خطر فوري ليتلقى منه ما هو حيوي لـ"دولة إسرائيل" في تلك اللحظة، كما أوضح الكاتب الإسرائيلي أورلي أزولاي في مقاله في صحيفة "يديعوت أحرونوت".
وفي المحصلة، كم سيصمد نتنياهو وحكومته أمام الضغوط الأميركية؟، والتي باتت بوادرها تظهر في استطلاعات الرأي للشارع الإسرائيلي، والتي أكدت لأول مرة فقدان نتنياهو أفضليته لتولي منصب رئاسة الوزراء منذ سنوات، بالإضافة إلى تراجع كبير في عدد مقاعد حزب الليكود، بل أوضحت أن معسكر المعارضة لنتنياهو سيحصل على أغلبية في الكنيست في حال إجراء انتخابات حالياً، فالغالبية في "إسرائيل" مقتنعة بالمقولة التي ينسبها البعض إلى الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر "أنه هناك أميركا من دون إسرائيل ولكن لا يوجد إسرائيل من دون أميركا."