الكوفية: ليست المرّة الأولى التي يخسر فيها من راهنوا على أنّ إسرائيل يمكن أن تلتزم بأيّ اتفاقات أو تفاهمات أو وعود. ثمة سياسة وأهداف تريد حكومة بنيامين نتنياهو تحقيقها بحزم، لا تفيد لتغير وجهتها أو وسائل تحقيقها أيّ بيانات، أو تصريحات إدانة، أو تحذيرات من أيّ جهةٍ كانت.
اجتماعان في "العقبة" و"شرم الشيخ"، برعاية الولايات المتحدة كان أساسهما وموضوعهما الأساسي الأمن، ومحاولة خفض الصراع والتصعيد خلال شهر رمضان، ولكن من يُدرك طبيعة وأهداف هذه الحكومة كان يعرف مسبقاً أنّ كلّ هذه الجهود ستذهب عبثاً.
وبالمقابل ربح كل من قال إن حكومة نتنياهو تجرّ إسرائيل إلى الكارثة، وتحقق الكارثة لا يتعلّق فقط بالصراع مع الفلسطينيين وإنّما، أيضاً، بسبب الأزمة الداخلية العميقة، التي تجتاح إسرائيل منذ وصول الائتلاف "اليميني العنصري الفاشي" إلى الحكم مع بداية هذا العام.
ما كانت إسرائيل بحاجة لانتظار تشكيل "الحرس الوطني" بمسؤولية إيتمار بن غفير، حتى تشتعل الأوضاع على كامل ساحة الصراع، فالأجهزة العسكرية والأمنية والشرطية الإسرائيلية، لم ولن تقصّر في تنفيذ سياسات الحكومة.
غير أن تشكيل "الحرس الوطني" بميزانية تصل إلى مليار شيكل من شأنه أن يضفي بُعداً آخر استراتيجياً على سياسات الاحتلال تجاه الفلسطينيين في الأراضي المحتلة العام 1948.
يكفي لتأكيد ذلك، ما صرّح به بعض مسؤولي الحكومة من أن تشكيل هذا الجهاز مرتبط بمهام طارئة لمواجهة أوضاع كالتي سادت إبّان ما يُسمُّونه حملة "حارس الأسوار".
عمليّاً لم تتوقف الاقتحامات للمسجد الأقصى، وبحماية الشرطة وأجهزة الأمن الإسرائيلية، ولكن ما جرى مساء الثلاثاء وفجر الأربعاء، شكّل بداية إشعال فتيل الانفجار الشامل.
ربّما كانت الشرطة الإسرائيلية تحضر المسجد الأقصى من ناحية المسجد القبلي، لتمكين المستوطنين من أداء طقوسهم بمناسبة عيد الفصح.
الحملة التي أدارتها الشرطة التي جنّدت المئات من عناصرها، اتخذت طابعاً قمعياً واسعاً لإخلاء المعتكفين في المسجد الأقصى، ما أدّى إلى اعتقال المئات، وإصابة مئات من المعتكفين.
الشرطة منعت طواقم الهلال الأحمر الفلسطيني من الدخول إلى المسجد الأقصى لإخلاء الجرحى، وتعمّدت اعتقال هؤلاء بعيداً عن وسائل الإعلام والمؤسّسات الطبية.
تدرك الدوائر الإسرائيلية السياسية والأمنية والشرطية أن اقتحام المسجد الأقصى على هذا النحو، سيؤدّي إلى ردود فعل فلسطينية واسعة، حيث خرجت الجماهير في معظم المدن الفلسطينية تنديداً واحتجاجاً، وتوعُّداً.
مثل هذه البيئة التي تخلقها إسرائيل ستحفّز بالتأكيد مئات وربما آلاف الشبّان الفلسطينيين من الجيل الجديد، للقيام بعمليات لا تتوقّف على استخدام الأسلحة النارية.
الأخطر من ذلك في مجال الحديث عن ردود الفعل الفلسطينية ما يمكن أن يقع من أحداث في أراضي 1948، من حيث إنهم من أكثر المشاركين في الوصول إلى المسجد الأقصى، خصوصاً في ضوء إجراءات المنع الإسرائيلية للمصلّين من مدن الضفة الغربية من الوصول إلى المسجد الأقصى.
ثمّة خاسرون آخرون، راهنوا على أن غزّة و"مقاومتها" يمكن أن تكون خارج المشهد الصراعي، حيث تتخطّى إسرائيل كل الخطوط الخُضر والصُفر والحُمر، خصوصاً في المسجد الأقصى.
حكومة الاحتلال، هي أوّل وأكبر الخاسرين في هذه المراهنة، فقد أعلنت لإبعاد غزّة عن دائرة الصراع، أنها يمكن أن ترفع عدد التصاريح الممنوحة للعُمّال للعمل في إسرائيل إلى خمسين ألفاً.
لا تفهم الدوائر الإسرائيلية، أنّ الحقوق والحريات، لا يمكن أن تُباع وتُشترى، حين تكون الأرض والمقدّسات والشعب في حالة خطرٍ شديد.
مع هؤلاء يخسر من يشكّك بأن "المقاومة" في غزّة، تقف أهدافها ويتحدّد دورها، في إطار الصراع والانقسام الداخلي.
في الحالة التي عليها القدس، وما يتعرّض له المسجد الأقصى، لا تبقى مساحة للنصائح والتحذيرات الخارجية، أو الضغوط، خصوصاً بعد أن تُبطل إسرائيل كل الذرائع، وتُصرّ على متابعة عُدوانها العنصري الفاشي، وسياساتها التي تستهدف حسم الصراع في الضفة والقدس.
حكومة الاحتلال بحاجةٍ ماسّة إلى تصعيد الأوضاع في الضفة والقدس حتى لو أدّى ذلك إلى اندلاع الاشتباك العسكري مع قطاع غزّة، وذلك للتغطية على أزمتها الداخلية، أو تخفيف حدّة المواجهات مع "المعارضة" في الداخل والخارج.
في هذه الحالة ستكون "المعارضة" الإسرائيلية أمام الاختيار، إذا ما كانت ستستمر في احتجاجاتها، أم أنها ستتوقف بدعوى مواجهة خطر خارجي.
الإسرائيليون في الحكومة و"المعارضة"، ليسوا مختلفين على ما يتعلّق بالصراع مع الفلسطينيين، وإنّما يقع خلافهم على السياسة الداخلية لحكومة الائتلاف "اليميني"، ولذلك فإنه من غير المرجّح أن تعلن "المعارضة" إدانتها لسياسة الحكومة تجاه المسجد الأقصى والقدس، وإن فعلت ذلك فبدعوى أن هذه السياسة تفاقم الخطر على دولة إسرائيل.
كل ذلك وأكثر من ذلك يجري تحت أنف الإدارة الأميركية، التي تسعى لحماية إسرائيل من نفسها ومن المحيط، لكنها لا تنجح.
الرئيس جو بايدن الذي أعلن انتماءه الصهيوني، ينضمّ إلى "المعارضة" الداخلية في إسرائيل التي تحتج وتطالب بإلغاء وليس تأجيل مشروع الإصلاحات القضائية.
هكذا ثمة خاسرون آخرون، هم من لا يزالون يُراهنون على موقف أميركي عملي يُرغِم إسرائيل على الامتثال للقانون الدولي ولـ "رؤية الدولتين".
مع الأسف تقدّم الولايات المتحدة مُؤشّراً آخر طازجاً على انحيازها الكامل لإسرائيل، حيث تواصل التصويت في مجلس حقوق الإنسان برفض مشاريع القرارات التي تتعلّق بعدم شرعية الاستيطان، وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بنفسه.
وهكذا فإن نتنياهو يواصل تجاهل كل العوامل الضاغطة، طالما أنها لا تتجاوز حدود الكلام، ويمضي قُدُماً في مُخطّطاته التفجيرية.