تمضي العقود، وتتوالى التحذيرات كل يوم، وإسرائيل تواصل صم آذانها، عن الحقيقة البسيطة الماثلة للدنيا كلها، ومفادها أنها تحتل دولة أخرى، أرض وشعب فلسطين، منذ أكثر من خمسة عقود مضت، بعد أن تجاوزت حدود التقسيم قبل ذلك بنحو عقدين من الزمان، تلك الحدود التي وضعتها الأمم المتحدة، والتي اعترفت بموجبها بها كدولة عضو في المجتمع الدولي، بل وزادت على ذلك باعترافها المشروط بإقامة الدولة الفلسطينية على النصف الآخر من أرض فلسطين الانتدابية، ويمضي الوقت وإسرائيل ما زالت مسكونة بوهم مفاده أن الواقع يمكن أن يبقى هكذا إلى الأبد، أو أن الشعب الفلسطيني يمكن أن يتلاشى، ويقبل بأن يعيش حياة دون حياة البشر، ذلك الوهم الذي غرسه في رأسها السياسي، اليمين الأيديولوجي الذي سرعان ما تحول مع مرور الوقت إلى يمين عنصري وفاشي، يؤسس دولة عدائية تسعى للهيمنة والسيطرة على الشرق الأوسط بأسره.
ترفض إسرائيل أن تضع حداً لاحتلالها، وبذلك فإنه لا يمكن تجنب المواجهة، والتي في حقيقة الأمر لم تتوقف، وإن كان بمنسوب يومي بسيط، خاصة بعد لحظة تاريخية فارقة، تمثلت بالانتفاضة الكبرى التي اندلعت بعد مرور عقدين على احتلال إسرائيل لما تبقى من أرض دولة فلسطين وشعبها، في العام 1967، والتي أجبرت إسرائيل في ظل حكم يساري، لم يعد متوقعاً تكراره، بعد سيطرة اليمين الذي فتح الباب لحكمه المتواصل اغتيال اسحق رابين، أي أن اليمين جاء مشفوعاً باغتيال، ويواصل حكمه بالقتل، على الدخول لأول مرة في تاريخها في محاولة لوضع حد لاحتلالها لأرض وشعب دولة فلسطين، والتوصل معه إلى حل سياسي تقوم بموجبه دولة فلسطين المستقلة، بما يضع حداً لمواجهة تاريخية ما زالت قائمة.
وإسرائيل التي لم تعرف سوى حكومات اليمين السياسي، ثم الديني/القومي الفاشي، طوت تلك الصفحة، وعادت للسير على طريق زئيف جابوتنسكي، منظر اليمين الإسرائيلي التاريخي، مؤسس عصابة الإتسل التي أنجبت مناحيم بيغين وإسحق شامير، والذي باسمه سن الكنيست العام 2005 ما سمي قانون جابوتنسكي لتعليم الأجيال تراث الرجل المتطرف، الذي كان يشير قائلاً: هذه الضفة لي وتلك لي أيضاً، ويبدو أن بتسلئيل سموتريتش متمثلاً عرّاب العنصرية الإسرائيلية، قال ما قاله في باريس قبل أسابيع جنباً إلى جنب مع الخارطة التي تصور إسرائيل بضفتي نهر الأردن.
هكذا فإن إسرائيل في ظل هذه العقلية ترى أن أي تفاوض مع الفلسطينيين لأجل إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطين المستقلة إنما هو كسر للجدار الحديدي، لأن ذلك يعني أنه يبقى لدى الشعب الفلسطيني الأمل، بينما يجب فرض الاستيطان عليه بالقوة حتى يستسلم ويفقد الأمل بإقامة دولته.
إن إخلاص اليمين الإسرائيلي لطريق التطرف العنصري، يعني بكل بساطة، في ظل حكمه المتواصل لإسرائيل، أن حلاً سياسياً يضع حداً للاحتلال لا يلوح في الأفق، بل ليس ممكناً في ظل حكومات اليمين، وحقيقة أن أميركا بشكل خاص، تدرك هذا وهي لا تراهن على أكثر من الإبقاء على الوضع الحالي، أي تعايش الشعب الفلسطيني مع الاحتلال، أي مع الذل والقهر القومي اليومي، والتطاول المستمر على حقوق المواطنين الفلسطينيين الإنسانية، وهذا أمر مستحيل، لذا فإنه حتى في حال مواصلة بذل الجهد من أجل عدم انفجار الأوضاع بشكل كبير، تخرج به الحالة الميدانية عن سيطرة الحكومات المعنية بالأمر، فإن ذلك لا يعني إلا تسكين الوضع الحالي، تماماً كما يجري التعامل مع مريض السكر من خلال إعطائه المنظم أو منح المريض الأدوية المسكنة، التي لا تعالج الحالة، ولا تضع حداً للمرض، ولكن تجعل منه أمراً محتملاً، أو تؤهل المريض للتعايش مع المرض.
أي أن الإبقاء على الوضع الحالي، بحد ذاته أمر غير مقبول على الشعب الفلسطيني، فما بالنا والتطرف الإسرائيلي، الذي يخشى تغييراً إقليمياً ودولياً، يجعل من أحلامه العنصرية أمراً غير مقبول على العالم، لذا فهو يندفع نحو القبضة الحديدية، ليفرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني، والشعب الفلسطيني بالمناسبة لا يقاتل الاحتلال بجيش رسمي أو تقليدي، ولا بحكومة رسمية، كما يحدث عادة في الحروب بين الدول والجيوش، التي تتقاتل أو تتحارب في معركة أو في حرب تتضمن عدة معارك، وتنتهي بهزيمة طرف لصالح آخر، يرفع بعدها الطرف المهزوم راية الاستسلام، وينتهي الأمر، هذا لا يحدث في الحالة الفلسطينية، حيث الشعب يقاوم الاحتلال في معركة شعبية متراكمة الفصول، تنتهي عادة بانتصار الشعوب وهزيمة المحتلين، كما حدث في العديد من دول العالم، من فيتنام إلى الجزائر، مروراً بدول أفريقيا ودول آسيا التي تحررت من الاستعمار الأجنبي.
أما تلامذة زئيف جابوتنسكي، وهو يمثل لهم اليوم عقيدة فاشية، فهم يمثلون أقبح من بقي من تلك الحقبة، ومصيرهم الاندثار، لكن فإن عدم تدخل المجتمع الدولي اليوم قبل الغد لردع التطرف العنصري الإسرائيلي، وفرض إنهاء الاحتلال على إسرائيل، سيجعل من الدخول في مواجهة مع إسرائيل لن تقتصر على الشعب الفلسطيني أمراً لا بد منه، بل أمراً مؤكداً.
أما صورة المواجهة اليوم فهي واضحة وصريحة، القوات الرسمية الإسرائيلية وليس المتطرفين من مستوطنين ومتدينين هي من يقتحم الحرم القدسي، وعلى الجانب الآخر من يتعرض للضرب والاعتقال هم المصلون، وليس المقاومين الفلسطينيين، أي أن إسرائيل الرسمية تمنح حق الصلاة، وتحاول تهويد مسجد المسلمين بكل بساطة.
وإذا كان اليمين الحاكم قد فتح جبهة المواجهة في القدس رسمياً، بإفراغ المسجد القلبي من المصلين والمعتكفين، لتقسيم الحرم مكانياً، وللهرب من الاحتجاج الداخلي ضده، فإن الرد الفلسطيني أبدع من خلال توسيع رقعة المواجهة، ليس من خلال التدافع نحو القدس كما كان يحدث في الماضي، ولكن بانطلاق المواجهات في جنين وأم الفحم وغزة، وحوسان بيت لحم وعروب الخليل، ونابلس، وشد الحبل بحيث لا يبقى حول رقبة الفلسطيني فقط.
ورغم التحذيرات المتواصلة فإن استجابة المجتمع الدولي ما زالت اقل مما يجب، فما أعلنته الخارجية البريطانية والمفوضية الأوروبية عن شعور بالصدمة جراء اقتحام القوات الإسرائيلية بشكل فاشي وهمجي للأقصى قبل أيام، كنا قد حذرنا منه، وهو رد فعل إيجابي لكنه لا يكفي، حتى لحماية الإسرائيليين من عدو الجميع، أي القوة العمياء الإسرائيلية الحاكمة، وإذا كانت إسرائيل في تطرفها ومواصلة احتلالها لأرض وشعب دولة فلسطين تستقوي بالحليف الأميركي والدولي، فإن ألمانيا النازية وجدت لها حلفاء حين شنت حربين عالميتين بهدف السيطرة على العالم، وحيث ما زال المجتمع الدولي بقيادة أميركا يتعامل مع إسرائيل كدولة فوق القانون الدولي ووفق معيار خاص، يجعلها تقدم مليارات الدولارات وكل الأسلحة الممكنة مترافقة مع حصار دولي متشدد على روسيا لأنها احتلت أراضي من أوكرانيا، فإن العالم كله يجب عليه أن يسألها لماذا لا تفرض الشيء نفسه على إسرائيل التي تحتل كامل أرض وشعب دولة فلسطين، وتغلق في نفس الوقت كل أبواب ومنافذ الحل السياسي، وفلسطين دولة عضو في الأمم المتحدة، وكل العالم يقول إن الاستيطان الإسرائيلي غير شرعي، وإن الاحتلال يجب أن ينتهي، ولكن يظل الكلام كلاماً، وهذا ما يشجع التطرف الإسرائيلي ليواصل طريقه العنصري حتى يصل مداه بامتلاك القوة الفاشية.