يقال أن حرب المستقبل، ربما قبل أن يطوي هذا العقد سنواته، ستكون بلا مقاتلين من جنس بني آدم، تقاتل فيها على الجبهة روبوتات يتم التحكم بها عن بعد من غرف مكيفة من خلال ضباط لم يسبق لهم أن أطلقوا رصاصة واحدة وربما لم يسبق لهم أن تواجدوا في معركة، الحرب بالنسبة لهم لن تكون أكثر من لعبة بلاي ستيشن، بإمكان قائد الروبوت أن يحتسي القهوة على مكتب وثير في غرفة مكيفة ويمارس القتل دون الحاجة لأن يلتقط النظرة الأخيرة لضحيته ودون أن تضج مشاعره من حجم الدم المسفوك، والروبوت لن يحل فقط مكان المقاتل من الجنس البشري بل أيضاً سيكون بديلاً لأدوات الحرب الأخرى، سيكون لدينا روبوت يحمل مدفعه الرشاش ويستعرض قدراته في شوارع وأزقة الجبهة البعيدة، وبجانبه روبوت آخر بحجم دبابة يتم الإعتماد عليه إذا ما تطلب الأمر المزيد من النيران التي لا تقوى على حملها الروبوتات الصغيرة الحجم، ومن فوقهم تزدحم السماء بروبوتات صغيرة من جنس "درون"، منها ما يزود الضابط القابع في غرفته بصور ثلاثية الأبعاد ببث حي ومباشر من ساحة المعركة، ومنها من يشارك في القتل بقدرات تفجيرية قلما تخطيء هدفها، وأيضاً سيدخل القتال روبوتات لطائرات حربية مقاتلة ترمي الجبهة بحممها البركانية قبل أن يتم إعادتها إلى مربضها، وربما يلحق بها بعد ذلك روبوت بحجم حاملة طائرات يمخر مياه البحار والمحيطات مستعرضاً إمكانياته.
الحرب حينها لن تكون بحاجة إلي شجاعة المقاتل، ولا إلى خبرة القائد العسكري الذي تغبر وجهه كثيراً في ساحات القتال، ولن تكون نتيجتها محكومة بحجم الترسانة العسكرية التقليدية، ولا بعنصر المفاجأة وقدرة الضربة الأولى على شل قدرات العدو، في حرب المستقبل ستكون الغلبة لمن يستحوذ على ذكاء إصطناعي يفوق الآخر، من يمتلك الأمن السيبراني الذي بإستطاعته أن يعطل الهجمات السيبرانية للعدو، لذلك ليس من باب المماحكة تلك الحرب المستعرة بين الكبار حول إمتلاك التقنية الرقمية، وليس من باب الممازحة تلك الحرب الضروس بينهم التي تستهدف بالمقام الأول شركات الاتصالات والقيود المفروضة على صناعة وتجارة الرقائق الإلكترونية، وليس من العبث أن تستهدف أمريكا، صاحبة القوة الأعظم في العالم، شركة الاتصالات الصينية "هواوي" وتصفها بأنها تهدد الأمن القومي الأمريكي، وليس من السذاجة أن تحارب أمريكا وتلحق بها بعض الدول الغربية تطبيق "تيك توك" الصيني، ويتم حظر التطبيق على أجهزة هواتف الموظفين الرسميين بداع أن التطبيق يتجسس عليهم، ولم تفض تلك الدول إشتباكها مع التطبيق بعد حتى خرجت ذات الشركة الصينية بتطبيق آخر "ليمون ٨" الذي يشهد نسبة تحميل تفوق ما يحصل مع التطبيقات الي سيطرت على وسائل التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة "فيسبوك وواتس واليوتيوب".
الحرب الخفية بين الكبار تدور حالياً حول الجيل الخامس للإتصالات "5G" وما يشمله من ثورة يخترق بها حاجز الخيال، والذي لا يقتصر على تقنية العالم الإفتراضي والمعزز والذكاء الإصطناعي والبيانات الضخمة على شبكة الإنترنت، بل أيضاً لما يقدمه من ثورة شاملة في الصناعة ومكوناتها، حيث المدن ووسائل النقل والموانيء الذكية، ولن تترك تطور تقنية الاتصالات شأناً من شؤون حياتنا إلا وكان لها باعاً فيه، وكل ذلك يتم على قاعدة إستبدال العنصر البشري بالذكاء الإصطناعي، والذي باتت ملامحه تتضح وتنتقل من الخيال العلمي إلى الواقع الحقيقي الملموس، فلسنا اليوم بحاجة إلي كاتب مقال أو مذيع أو مقدم برامج أو باحث أو مدقق فكل تلك الأعمال يقوم بها الذكاء الإصطناعي بمهارة وإتقان يتفوق بها على المنتج البشري، وعما قريب سيحل الذكاء الإصطناعي بديلاً عن العنصر البشري في مجالات كنا نظن أنه من السذاجة التفكير بها، كأن يجري روبوت عملية جراحية بدقة متناهية يتم التحكم به عن بعد، وبالتالي نحن أمام عالم مختلف عن العالم الذي نعيش فيه، عالم ستختفي فيه ملايين الوظائف، ولا يعني ذلك أنه سيكون عالم بلا أهمية للعنصر البشري، بل أن العنصر البشري وبأعداد أقل بكثير مما عليه الحال الآن سيتحكم أكثر في مناحي الحياة المختلفة.
التطور الهائل في تقنية الإتصالات لا يتعلق فقط بحرب المستقبل والقوى المهيمنة عليها، ولا بما تقدمه إلى أجهزة الإستخبارات من معلومات، ولكن أيضاً بما تحدثه من إنقلاب كبير في الأنشطة الاقتصادية والتي من شأنها أن تطيح بدول وتقسم أخرى إلي دويلات صغيرة، ما يعنينا هنا أن عالمنا العربي ما زال تفصله سنوات ضوئية عما حققته تقنية الاتصالات من نقل الخيال إلى واقع، وأكثر ما يعنينا في تقنية الاتصالات ما تمخضت عنه من وسائل التواصل الإجتماعي نبحث فيها عن عدد التعليق والإعجاب، ويكفي أن نعرف أن نصف عدد العاملين في شركة "هواوي" علي سبيل المثال يعمل في مجال البحث والتطوير، وهو بالمناسبة رقم مرعب، وسواء قبلنا أم رفضنا ما يحدث من حولنا في عالم الذكاء الإصطناعي فهذا لا ينفي حدوثه، وأن الحرب الخفية المشتعلة من حولنا تدور رحاها حول إمتلاك المعرفة.