- مدفعية الاحتلال تقصف منطقة أبو معلا غربي النصيرات وسط قطاع غزة
الكوفية: أعادتني حركة الفتيان والشباب السريعة صباحاً خلال ثوان إلى حاضر المدينة العريقة بعد أن كنت مستغرقاً أفكر بما قرأته من تاريخ قديم، ورحت أتأمل تلك الحركة الدؤوبة، والتي لم أشهد مثلها في حياتي. طالت دهشتي وأنا أراهم يرتبون بضاعتهم أمام المحلات، وعلى الأرض، بسطات البائعين الوافدين لهذا السوق، في حين راح آخرون تجمعوا حول عربة "الكبدة"، يتناولون طعام الإفطار بسرعة عجيبة ونهم لا مثيل له؛ فنتساءل عن أي روح هذه التي تسكنهم، ويزداد العجب أنهم لا يحفلون بوجود جنود الاحتلال الذين يعتلون البنايات لمراقبة أهالي المدينة.
أقف لدقائق محتاراً بين تأمل باب الزاوية والخليل أواخر العهد التركي، وعهد الانتداب البريطاني، حيث نرى البنايات المبنية وفق النظام العمراني الكولونيالي، مثل البلدية، ومدرسة ابن رشد المشكلة وفق معمار العام 1932، وهو معمار خليط كما نرى، وبين هؤلاء الفتية والشباب وباقي التجار الأكثر نشاطاً.
في مدخل البلدة القديمة-العتيقة، تناولنا طعاماً شعبياً، الفوارغ والمخ و"الكبدة"، وقد دهشت أنها تقدم مع شوربة لذيذة المذاق، مع بقدونس وبعض "العناقيد"، فتضفي طعماً ساحراً.
في شوارع المدينة الرئيسة، يتعمق للزائر أن المدينة تجارية من الدرجة الأولى؛ فأسواقها الحديثة فيها كل ما تحتاجه البيوت، فالمحلات واسعة، وملأي بالبضائع من كل الأصناف. وهي محلات جديدة لأسر توارثت التجارة، منذ زمن، حيث ظلوا محتفظين بمحلاتهم في البلدة القديمة. ولا ننسى أن ضواحي المدينة وقراها وخربها تشكل حياة زراعية جيدة.
ومعروف أن الخليل كذلك مدينة صناعية، في مجالات الطعام والملابس خاصة الأحذية، التي يتم بيعها للدول الأوروبية، لتبيعها على أنها منتوج أوروبي. لكن في العقدين الأخيرين اتجه الخلايلة إلى التجارة، خصوصاً من خلال الاستيراد المكثف من الصين. ومن كثرة ترددهم هناك، ظن الصينيون أن هناك دولة اسمها الخليل، ولعلّ وجود مؤسسة الخليل - فرنسا تؤكد ذلك.. لأن الأصل أن تكون الجمعيات من مدينة إلى مدينة أو من دولة إلى دولة.
في حارات البلدة القديمة، بدءاً بمفرق السوق والشلالة، وحارة القزازين التي أصبحت "بلا قزاز"، أي بلا صناعة زجاج، لكنها بقيت تحمل الاسم العتيق نفسه، كذلك حارة السواكنة والقصبة، وحارة العقابة، تجد الحاضر امتداداً لماض تجاري عريق.
في الحوش الكبير الذي عمره قرنان ونصف القرن نجد ما يعرف بالوكالة. أتخيل هذا المكان عامراً بالتجار والعمال، فهو مخصص لتجارة الجملة. وقد قسم معمارياً لعدد من الطوابق إضافة إلى الفناء المكشوف، الطوابق الأرضية للتخزين، أما الطابق الثاني فكان مخصصاً للمكاتب، للتسجيل وعقد الصفقات، أما الطوابق العليا فخصصت للسكن. ومعنى ذلك عراقة التجارة هنا، فما زال الخلايلة إلى اليوم هم كبار التجار في فلسطين.
تحولات
نهبط إلى سوق الإسكافية، وهي السوق المخصصة لصناعة الأحذية التقليدية وإصلاحها، فحين تأسست كانت الظروف الصناعية تستدعي وجودها، الآن لم يعد لها لزوم سوى في نطاق ضيّق، وهو إصلاح الأحذية والحقائب ولوازم المزارعين، وفي سوق الإسكافية لم يبق غير إسكافي واحد، أغلق محله هذا اليوم، فقد انتقل العمل إلى المصانع الجديدة الواسعة.
أما سوق اللبن فملاصقة لسوق الإسكافية، السيد الجبريني ما زال يتذكر ازدهار السوق التي أصبحت الآن بلا لبن ولا حليب، وهو يتذكر قدوم البدو والفلاحين بحليب مواشيهم وأبقارهم محملاً على الدواب، وكيف كانوا يبيتون هنا، ويقومون ليلا بـ"ترويب" الحليب وعمل مشتقاته من اللبن والزبدة والجبنة، ليتم بيعه صباحاً بالجملة. يتذكر الجبريني طقوس الخض كما يتذكر إنتاج الحويرنة، وهي نبات ذو طعم "لاذع" يخلط باللبن. قلت للجبريني: سوق اللبن بلا لبن، فأحضر كأسين من اللبن الرايب، شربنا اللبن اللذيذ ومضينا نتأمل في تغير الأحوال. اختفاء اللبن هنا أيضاً ارتبط بالانتقال إلى مصانع حديثة.
في الحرم الإبراهيمي
سميت المدينة الخليل، لأنها بلد الرسول إبراهيم عليه السلام الذي قدم إليها من العراق، ثم مضى وابنه إسماعيل وزوجته سارة إلى مكة في أرض غير ذي زرع، حيث تركهم هناك بأمر الله وعاد إلى الخليل في حادثة شهيرة تقوم عليها معظم مناسك الحج.
كانت المدينة تسمّى "كريات أربع" نسبة إلى الملك الكنعاني أربع، ثم سمّيت بعدها "حبرون" قبل أن تسمّى الخليل نسبة إلى سيدنا إبراهيم نبي الله وخليله، والذي جاء إليها قادماً من العراق، حيث بنى معرشاً، ثم أقام في منطقة الحرم، بعد أن اشترى المغارة. وقد أطلق الرحالة على مدينة الخليل مسجد إبراهيم، والخليل تعني الصديق أو الرفيق، وهو خليل الرحمن.
رابع مكان مقدس بعد مكة والمدينة والقدس، وهو أقدم مكان مقدس ما زال مستخدماً من القرن السابع عشر قبل الميلاد. لقد بنى البرج، أي القاعة الرئيسة، بيتار الأدومي ملك الأدوميين العرب، والذي كان أجداده من الأنباط، الذين بنوا البتراء. يحيط بالحرم جدار ضخم يرجح أن أساساته بنيت في عصر هيرودوس، وهو مستطيل طوله 65 متراً وعرضه 35 متراً، ويبلغ سمكه متران ونصف المتر، أما الارتفاع فيصل 16 متراً. بني من حجارة ضخمة أكبرها يصل إلى 7 أمتار طولاً، وعرضه متران. ولكبر هذه الحجارة تم نسبة البناء للجن. ويقال إن هيرودوس بنى هذه القلعة غيرة من تعظيم الناس لسيدنا إبراهيم، لذلك لا يوجد فيها أي شباك. كان ذلك في العام 1700 قبل الميلاد. ولا يوجد أثر للمدخل الرئيس لأنه بني ليكون برجاً. في العام 332 للميلادية، أمرت الملكة هيلانة بسقف البناء ليصبح كنيسة. وفي العام 615 م هدم الفرس السقف، وحينها جاء البيزنطيون أعادوا بناءه. وفي العام 634 بعد معركة أجنادين فتحت الخليل، وتم بناء محراب في الجدار، وهو بعمق مترين ونصف المتر باتجاه القبلة وصلى العرب المسلمون فيه ووضعوا المشاهد على قبور الأنبياء.
ومعروف أن وجود اليهود في فلسطين كان في وقت لاحق للوجود العربي، حيث يعتقد أن الملك داود اتخذ من الخليل عاصمة أولى حوالى العام 1000 قبل الميلاد وحكمها 7 سنوات، قبل أن يجعل القدس عاصمة له. وبعد الفتح البابلي في العام 586 قبل الميلاد تم نفي عدد كبير من سكان الخليل إلى بابل، ثم أعيد استيطانها من قبل الأدوميين. وبعد استيلاء الفرس على بابل، عاد بعض اليهود إلى الخليل عندما سمح لهم كورش بالعودة العام 537 قبل الميلاد.
وفي أواخر القرن الخامس عشر سمح لجماعة السفارديم اليهودية المطرودة من إسبانيا بالاستقرار في الخليل. وقد سكنوا في حارة اليهود، واندمجوا في مجتمع الخليل، كما اندمجوا في بلاد أخرى، وظل الأمر قائماً بشكل طبيعي حتى أواخر عشرينيات القرن العشرين، حيث اضطروا للمغادرة على إثر المشاكل والاصطدامات، بسبب الأفكار الصهيونية الوافدة.
لذلك، فليس من المستغرب، على ضوء هذا التاريخ، وجود مدينة وقرى تتبع لها، بهذه الحيوية في الصناعة والتجارة والزراعة. وقد كانت المدينة كريمة دوماً في استقبال الضيوف.
في آخر تجوالنا، نأكل الحلقوم من مصنع صغير عريق، كذلك نشتري الملبن، المصنوع من عصير العنب المدمج بمواد من دقيق وسميد، وتشتهر قرى الخليل وبيت لحم بصنعه. سنقضم الملبن متذكرين الشاعر الخليلي عز الدين المناصرة حين تغزل بالعنب:
خليلي أنتَ: يا عنب الخليل الحرّ
الخليل تفضّلهُ في الصباح زبيباً ودبْساً،
إذا كانَ مَلْبَنُهُ صافياً كبنات الشام.
سُكّراً كبياض خليليةٍ مثل شمس تغار من الشمسِ،
كي لا تغار من الورد، من حمرة الوجنتينِ،
ولين القوامْ.
في الخليل كل طعام هنا جميل وله مذاق، وعلى باب تكية سيدنا إبراهيم عليه السلام، الموصوف بـ"أبي الضيفان"، ويفخر الخلايلة بأن مدينتهم لا يبيت فيها جائع.
نقبل دعوة تناول أشهر طعام عربي، وهو "العصيدة" اللذيذة، المكونة من القمح المجروش واللحم، الذي تتبرع به العائلات العريقة.