الكوفية: فوجئ الرأي العام الفلسطيني بقرار الرئيس محمود عباس إحالة اثني عشر محافظا للتقاعد، ( 8 في الضفة و4 في قطاع غزة) ومردّ المفاجأة أن القرار علم به المحافظون أو أغلبهم من وسائل الإعلام، وليس عبر القنوات الرسمية، ما ترك المجال واسعا للتكهنات والتفسيرات السلبية، وهو ما يمكن رصده من المنشورات والتعليقات التي عمّت وسائل التواصل الاجتماعي بما فيها مجموعات تبادل الأخبار عبر "الواتس اب" من قبيل أن القرار جزء من صراعات مراكز القوى والنفوذ. أو أنه نوع من تنفيس الأزمات المعيشية التي يعيشها المواطنون من خلال تحميل المُقالين جزءا من مسؤولية إخفاق السلطة، وإشعار المواطن بنوع من التغيير مع استمرار الحديث عن تغيير حكومي. بعض التفسيرات ذهبت أبعد من ذلك بالقول أن المسألة مرتبطة بمشاريع ومخططات ذات صلة بخطط استعادة السيطرة الأمنية.
تبدو هذه التفسيرات منطقية ومشروعة، بل مفتوحة لمزيد من التأويلات والتفسيرات والشائعات في غياب التفسيرات الرسمية، والأهم غياب اي عملية منهجية لتقييم الأداء بناء على معايير ومقاييس أداء معروفة وشفافة، بالإضافة إلى تغييب أدوات الرقابة الرسمية والشعبية واهمها المجلس التشريعي، واستقالة المعارضة من مهماتها في مساءلة السلطة ومحاسبتها وتتبع أدائها، واستمرار تركيز جميع السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بيد الرئيس. حتى الحكومة لا يبدو أن لها صلة بالموضوع في ظل الحديث عن تغييرها من جهة، ولكون القانون الفلسطيني ( المرسوم رقم 22 لسنة 2003 وتعديلاته بمرسوم رقم 22 لسنة 2021) يحصر صلاحية تعيين المحافظين وتمديد عملهم أو إقالتهم بيد الرئيس تحديدا دون تدخل مجلس الوزراء.
حاول الإعلام الرسمي تلطيف وقع المسألة بالحديث عن تكريم المحافظين المُحالين للتقاعد، وربط التقاعد بوصول السن القانونية، ومن حسن حظ المتابعين وجود الشبكة العنكبوتية التي توضح بالتفاصيل أعمار المحافظين وتواريخ ميلادهم جميعا حيث يتبين أن أعمارهم تتراوح بين 59 عاما، و82 عاما، وبعضهم في النصف الثاني من السبعينات أو في نهاية الستينات، اي أن هؤلاء عينوا في مناصبهم بعد تجاوزهم السن القانونية للوظائف العمومية، وقد جرى التجديد لهم خلافا للقانون الذي يحدد مدة خدمة المحافظ بخمس سنوات قابلة للتمديد لعام واحد فقط كحد أقصى.
الحقيقة المرة أن كثيرا من الناس لا يعرفون ما هي وظيفة المحافظ ولا ما هي الحاجة لها، صحيح أن القانون يحددها بشكل تفصيلي بالنص على صلاحياته واعتباه أعلى سلطة في المحافظة، ويرأس المجلس التنفيذي الذي يضم مدراء الدوائر الحكومية، ولجنة التنظيم والتخطيط، إلا أن واقع الحال وغياب السيادة الحقيقية على الأرض للسلطة الفلسطينية بسبب الهجوم الشامل من قبل سلطات الاحتلال على كل معالم الوجود الفلسطيني بما في ذلك توسيع صلاحيات الإدارة المدنية والتعدي المتواصل لصلاحيات السلطة، يشير إلى تحول منصب المحافظ إلى منصب وجاهي. فأكثر ما نسمعه عن المحافظين هو قيامهم بالواجبات الاجتماعية من تمثيل اعتباري للسلطة مشاركة في بيوت العزاء، واستقبال الأسرى المحررين، وافتتاح بعض المحلات والمشاريع التجارية، حتى باتت وظيفة المحافظ أقرب إلى كونها مكافأة نهاية خدمة لكبار ضباط الأجهزة الأمنية، وكبار مسؤولي تنظيم فتح، ومحط أنظار بعض كبار الموظفين الإداريين الطامحين بالترقية.
من المفهوم الإبقاء على محافظ القدس عدنان غيث الذي دفع ثمن وظيفته سلسلة من الاعتقالات وأوامر الحبس المنزلي ومنع دخول الضفة، وكذلك الإبقاء على السيدة الوحيدة في قائمة المحافظين ليلى غنام التي اقترن إشغالها لوظيفتها بنشاطية ملحوظة وحرص على التواجد في أغلبية الفعاليات الاجتماعية والوطنية، وهي بالمناسبة ليست الأدوار التي وجد منصب المحافظ من أجلها. كما أن وظيفة المحافظ في المحافظات الجنوبية باتت في ظل الانقسام مجرد وظيفة وجاهية واعتبارية، وإذا بحثت عن أدوار المحافظين وأخبارهم فسوف تتفاجأ – للأسف- بأخبار اعتقال بعضهم والإفراج عنهم كبادرة حسن نية تقدمها حكومة حماس للحوار الوطني!
وبالعودة لما يقوم به المحافظون وكيفية تعيينهم وإقالتهم ومتابعتهم، لا يبدو أن للحكومة دورا في هذه العملية، وذلك يمثل ثغرة جدية مع أن القانون يبدو فضفاضا في هذا الجانب حيث ينص على أن المحافظ يقوم بتنفيذ القوانين والتعليمات والأوامر الصادرة من رئيس السلطة أو مجلس الوزراء، فأداة التخيير هذه (أو) تلغي اي دور ملزم لمجلس الوزراء مع أن المحافظ يفترض به أن يرأس المجلس التنفيذي المُشكّل من مدراء الدوائر وعدد من رؤساء البلديات في المحافظة.
دأبت بعض الدول العربية الشقيقة على تخصيص منصب المحافظ، أو الوالي إما لتكريس نمط أنظمة الطوارئ القائم على الحكم العسكري وامتداداته الجهوية، أو لتعزيز نفوذ الحزب الحاكم، أو على تبني نموذج ما لمبدأ اللامركزية لتحفيز التنمية في الأقاليم والمناطق النائية. في فلسطين التي تفرض خصوصية وجود الاحتلال نفسها على أي مقاربة يبدو الأمر خارجا عن النماذج المعروفة عربيا ودوليا، وأقرب إلى كونه نموذجا ارتجاليا ونقلا حرفيا لتلك النماذج دون وجود عناصر المشابهة. ويبدو الأمر أقرب إلى وضع العربة أمام الحصان حيث استحدثنا المناصب وما يرافقها من امتيازات ولوازم الوجاهة من ألقاب العطوفة والمعالي قبل تحقق السيادة الفعلية.
لسنا بحاجة إلى وظائف وجاهية واعتبارية ولا إلى مكافآت نهاية خدمة على حساب الشعب وحساب معايير الشفافية والحكم الرشيد. ومن الأفضل لنا إعادة النظر في أدوار المحافظين وفكرة الحكم المحلي بإعادتها إلى الشعب، إذا كان ثمة حاجة لمنصب إداري يوحد المسؤوليات في المحافظة وينظمها وينسق بينها، يمكن إسناد هذه المهمة لهيئة منتخبة، وقد يرى ممثلو الشعب أن تكون بتنسيب من الحكومة على أن تكون هذه الحكومة مسؤولة أمام مجلس تمثيلي / تشريعي منتخب.
نحتاج إلى التغيير، نعم بالتأكيد، ونحتاج إلى ضخ دماء جديدة في مؤسسات الحكم والإدارة، فالنظام السياسي كله بات بحاجة إلى التغيير، والمدخل الرئيسي المناسب لذلك هو الانتخابات العامة للرئاسة والمجلس التشريعي والمجلس الوطني، دون ذلك يبقى اي تغيير محدود الأثر.