لكل فعل رد فعل مساوٍ له بالمقدار ومعاكس له في الاتجاه، هذا هو القانون الطبيعي الذي اكتشفه أبو النسبية عالم الفيزياء العظيم ألبرت آينشتاين، والذي به فسرت البشرية العديد من الظواهر الطبيعية، وتقدمت به على طريق الحرية الإنسانية، أما في السياسة فإن هذا القانون قد لا ينطبق تماماً، لكن يؤخذ به بشكل نسبي أو جزئي، كما هو حال القوانين العامة في حقول المعرفة والآداب، أي بقدر أقل انطباقاً، كما هو الحال في العلوم الطبيعية، فلكل فعل في السياسة ردود أفعال تؤثر عليها إيجاباً أو سلباً بقدر ما، بحيث يمكن القول، إن كثيراً من أفعال السياسة، قد تكرست أو فشلت بسبب من ردود الفعل التي ثارت معها أو ضدها.
والحقيقة أن فعلاً سياسياً عابراً، قد لا يحدث رد فعل عظيم الأثر، كما يحدث ذلك إزاء فعل سياسي متواصل، أو يستمر ردحاً من الزمن، وهذا ينطبق بالطبع، ونقول ذلك بكل ثقة، على السياسة الإسرائيلية، اليمينية منها، والمتطرفة على نحو خاص، وذلك بسبب أن سياسة اليمين واليمين المتطرف متبعة في إسرائيل منذ عقود، وهي ما زالت تواصل طريقها بالضد من المنطق الدولي ممثلاً بقرارات الأمم المتحدة العديدة، إن كانت تلك التي اتخذت في مجلس الأمن، أو كانت تلك التي اتخذت في الجمعية العمومية، كذلك بالضد من منطق التاريخ، ومن منطق العدالة الإنسانية، لذا فإن ردود الفعل عليها، خاصة تلك التي تقع على الجانب المضاد لها، تظهر يوماً بعد يوم قدرتها على إفشال سياسة التطرف الإسرائيلية، وصولاً إلى مجيء اليوم الذي تلحق فيه الهزيمة التامة بها.
وحقيقة أخرى مرتبطة بهذا السياق، وهي أن مناهضة التطرف اليميني الإسرائيلي لم تعد تقتصر على جزء من الشعب الفلسطيني، ممثلاً بفصائل معينة، وهي بعد أن باتت تنتشر في صفوف الكل الفلسطيني، لا تقتصر حالياً على الشعب الفلسطيني، بسلطته وفصائله وشرائحه المختلفة، بل شملت شعوباً عربية تقف ضده، وإن كان بأضعف الأيمان، ويتجاوز ذلك سورية ولبنان، كما أن مناهضة التطرف اليميني الإسرائيلي باتت تجتاح نصف الإسرائيليين أنفسهم، الذين لم يكل لهم عضد منذ تولت الحكومة المتطرفة الحالية مقاليد الأمور، حيث يتظاهرون تباعاً للأسبوع الثاني والثلاثين بمئات آلاف المواطنين، وحيث باتت إسرائيل أمام خيارين لا ثالث لهما: فإما بقاء بنيامين نتنياهو وحكومته المتطرفة في الحكم، أو اهتزاز أركان الدولة نفسها.
وقد وصلت ردود الفعل على التطرف الإسرائيلي إلى أهم حليفاتها، نقصد الولايات المتحدة، حتى وصل الأمر - وهذا شيء لا يكاد يصدق - إلى أن ترفض واشنطن استقبال وزراء من الحكومة الإسرائيلية، بمن فيهم رئيس الحكومة نفسه، الذي ما زال ينتظر بعد مرور أكثر من سبعة شهور الدعوة الرسمية لزيارة واشنطن، وهي زيارة معتادة طوال السنوات الماضية لكل رئيس حكومة ينتخب، أو لكل رئيس أميركي منتخب، للتأكيد على استمرار التحالف الاستراتيجي بين البلدين، بصرف النظر عن القاطن في البيت الأبيض، أو الساكن في شارع بلفور بالقدس الغربية.
حقيقة ثالثة، هي أن نتنياهو اضطر في سياق البقاء أطول فترة لرئيس حكومة إسرائيلي في المنصب، للتحالف مع الأحزاب اليمينية المتطرفة، ذات القاعدة الاستيطانية، تباعاً، وهو منذ العام 2011، كان أهم حليف يميني له هو أفيغدور ليبرمان، ثم بعد ذلك حزب المستوطنين البيت اليهودي، واليوم صارت القوة اليهودية والصهيونية الدينية، وذلك بعد أن قفز من العربة الموغلة في التطرف كل من ليبرمان، ونفتالي بينيت، الذي اكتفى بالخروج من المسرح السياسي بتولي منصب رئيس الحكومة بأقل عدد من المقاعد التي يحصل عليها حزب رئيس الحكومة، وهذا يعني أن نتنياهو خاصة بعد فتح ملفات القضاء ضده، بتوجيه التهم له بالفساد، بات يتخذ سياسة جوهرها الحفاظ على بقائه في المسرح السياسي، دون أن يخرج منه بتقاعد مبكر، وبفضيحة تاريخية تشطب اسمه من سجلات التاريخ الإسرائيلي الحديث.
وحقيقة رابعة تشير إلى أن التطرف الإسرائيلي تعزز وتوغل، بل وتكرس بسبب من استمرار إسرائيل كدولة تحتل أرض الغير، خاصة أن هذه الأرض المحتلة ممتلئة بالسكان، وهي ليست أرضاً حدودية مختلفاً عليها، ولا تحوي جزءا من شعب، أو عرقاً متداخلاً ما بين قوميتين، كما هو حال بعض المناطق التي تقع بين دول ما زال التوتر قائماً بينها، كون الأرض تعتبر جزءا من دولة والشعب جزءا من قومية دولة أخرى، فإسرائيل تحتل أرض دولة فلسطين، وبعد أن تعثر الحل التاريخي حين كان الحديث يدور عن تبادل أراضٍ لحل مشكلة الاستيطان بعدم تفكيكه، بما يعني أن احتلال إسرائيل ليس احتلالاً جزئياً أو بسيطاً أو يمكن التعايش معه، فهو يمنع إقامة دولة فلسطينية لشعب حي، هو شعب معترف به في كل العالم، ومعترف له بالحق في إقامة دولته على أرضه، وأرضه كلها محتلة من قبل إسرائيل.
إن احتفاظ إسرائيل بأرض فلسطين، وامتناعها المتواصل عن التوصل لحل يتضمن انسحابها منها، قد عزز وكرس التطرف الداخلي فيها، ذلك أن نصف مليون مستوطن، إضافة لأكثر من 300 ألف آخرين من سكان المستوطنات المحيطة بالقدس المحتلة، هم مصوتون طبيعيون للتطرف اليميني، فهم سارقو أرض الغير، وهم موجودون كخارجين على القانون الدولي، وكان احتلال إسرائيل لأرض دولة فلسطين سبباً حقيقياً في تلاشي اليسار الذي أسس دولة إسرائيل وفق قيم الليبرالية الغربية.
ولأن في السياسة هناك قوانين تقول إنّ لكل شيء ثمناً، فإن ثمن نجاح اليمين الليكودي في تشكيل الحكومة هو التحالف مع مجموعتين سياسيتين، واحدة منهما تمثل الاحتلال، والأخرى تمثل التزمت الديني، لذا فإن أول ثمن دفعه نتنياهو، وكان هو الأسهل عليه، لأنه يمسه شخصياً، كان تمرير قانون «عدم المعقولية» الذي مثل تقويضاً لسلطة القضاء، فيما الأثمان الواجب عليه وحزبه دفعها تتوالى، وهناك على الأبواب قانون التجنيد، الذي يجب عليه دفعه للشريك الديني، ومضمونه إعفاء طلاب المدارس الدينية من أعضاء حزبي شاس ويهوديت هتوراة من الخدمة العسكرية، ثم بالطبع حزمة القوانين الخاصة بإخراج المحكمة العليا من دائرة التأثير السياسي، بما يعتبره ملايين الإسرائيليين انقلاباً على الديمقراطية، وإعادة تشكيل دكتاتوري للدولة.
ربما كان نتتياهو والليكود قد تشجعا في سيرهما على طريق تقويض القضاء، وعدم الانصياع لما تقول به أجهزة الأمن، وعدم الاهتمام لنكوص الاحتياط العسكري عن العمل في الجيش بمن في ذلك طيارو سلاح الجو، هو تلاشي اليسار، الذي شكل طول العقود الماضية نداً وخصماً سياسياً طبيعياً في الحكم، بحيث وجد الليكود نفسه أمام معارضة هلامية، يوحدها فقط العداء الشخصي لنتنياهو، أي أنها ليست بمحتوى مدني ديمقراطي سياسي، لكن الرد من الشارع، حيث تمنح استطلاعات الرأي قادة الاحتجاج في «كابلان» أكثر من عشرة مقاعد في الانتخابات القادمة، وإن كانت هذه المقاعد بمعظمها من حزبي «ييش عتيد» و»معسكر الدولة»، إلا أنها تأخذ أيضاً من الليكود، لكل هذا تلكأ نتنياهو أولاً في طرح قوانين تقويض القضاء على الكنيست، بعد تجميد لوقت، فيما يقال الآن إنه يفكر في تعليقها لمدة عام، وإن حدث هذا، فإنه يمكن القول بكل بساطة، إن التطرف الإسرائيلي قد هزم داخلياً، في انتظار أن يهزم خارجياً، بكنس الاحتلال، لكن هذا يحتاج كفاحاً فلسطينياً، يغلق الشقوق التطبيعية القائمة والقادمة معاً.
وبهذه المناسبة، فإنه لا بد من توجيه السؤال لبعض الدول العربية التي تواصل التطبيع بحفاوة مع جوقة التطرف الإسرائيلية، في الوقت الذي تغلق فيه واشنطن أبوابها أمامه، كذلك بمناسبة جرائم الحرب التي تقع يومياً في جنين ونابلس وأريحا، والسؤال هو: ألا من تهديد بوقف مسيرة التطبيع، أو تبريدها على الأقل كما هو حال مصر والأردن، وهذا موجّه بالطبع لكل من المغرب والإمارات حصراً وبالتحديد.