فراس ياغي
يكثر الحديث عن الموقف الأمريكي إن كان عبر الفضائيات العربية وبالذات الجزيرة أو الكثير من المحلليلين السياسيين لدرجة محاولة النفاذ لعمق العمق لأجل إيجاد خلافات بين الطرفين الأمريكي والإسرائيلي، وكأننا نتحدث عن طرفين، وليس طرف واحد فيه آراء متعددة وخلافات في البيت الواحد
فضائية الجزيرة وصلت لدرجة القول ان ما تقوم فيه إسرائيل لأول مرة يتعارض مع مصلحة الأمن القومي الامريكي، ونسيت أن رئيس مجلس الامن القومي الأمريكي "جيك سوليفان" ومعه وزير الخارجية "بلينكن" يكادان أن يتماهيا تماما مع موقف الدولة العميقة في إسرائيل، وان خلافهم هو بسبب نتنياهو الذي يقاتل بشراسة للحفاظ على بقاءه الشخصي
هنا لا بدّ أن نشير إلى ان قصة الخلافات بين أمريكا وإسرائيل ليست سوى محض كذب، ومحاولة لتسويق وكأن لأمريكا مواقف تتعارض مع ما تريده إسرائيل، وهناك أسباب ومحددات ومؤشرات تشير للتوافق التام في كل شيء تقريبا
ونلاحظ الحرص الدائم وبالذات لفضائية الجزيرة على تضخيم بعض التصريحات لبعض المسؤولين الأمريكان لمحاولة خلق وهم الخلاف بين امريكا وإسرائيل
لذلك نشير للتالي
أولا- العلاقة الأمريكية الإسرائيلية علاقة إستراتيجية لا تؤثر فيها أي خلافات تكتيكية في السياسة ولا خلاف في الامن، اي أن الخلاف عادة يتعلق بالخطط السياسية المرتبطة بكيفية إدارة الملفات وبالذات الفلسطيني ولا يوجد هناك خلافات في الأمور العسكرية والأمنية
ثانيا- أمريكا تعلم وتشارك بشكل مباشر في كل العمليات العسكرية والأمنية التي قد تؤدي لتوسيع المعركة، وقصة عدم معرفتهم بعملية الإغتيال للمجاهد الشهيد العاروري محض كذب، وهي دعمت ذلك للضغط على حزب الله بما يتعلق بالمفاوضات التي تجري حول تنفيذ القرار 1701، إضافة أن الولايات المتحدة تعتبر الشيخ العاروري إرهابي وهذا ما تحدث به "كيربي" منسق مجلس الامن القومي للإتصالات الإستراتيجية
ثالثا- أمريكا لن تقبل تحت أي ظرف بهزيمة إسرائيل، وسوف تعمل على ذلك حتى لو ادى ذلك لتدخلها، ولذلك فهي تقدم لإسرائيل كل ما تريد من أجل المعركة، وواضح أن وزير الدفاع الإسرائيلي "غالانت" تحدث بوضوح حول أن إسرائيل لا تستطيع أن تعيش في الشرق الاوسط دون إنتصار واضح
رابعا- إنسحاب حاملة الطائرات جيرالد فورد جائت بتنسيق مع الجيش الإسرائيلي، وكانت محاولة تضليل وكأن أمريكا ضد توسيع الحرب وكانها تنذر إسرائيل بذلك، والنتيجة إغتيال المجاهد العاروري في قلب بيروت وفي الضاحية الجنوبية للعاصمة
خامسا- الخلاف الحقيقي بين الولايات المتحدة الامريكية وإسرائيل هو فقط حول الخطة السياسية ما بعد حرب غزة، لأنها متخوفة من تأثير ذلك على مجمل سياستها في الشرق الاوسط نتيجة لسياسات حكومة "نتنياهو" المتطرفة
سادسا- امريكا سمحت لإسرائيل بإبادة قطاع غزة وتدميره ولا تزال تعطيه ضوء أخضر للإستمرار في حربه وكل ما تطالب فيه إدارة البيت الأبيض هو التعجيل في الذهاب للمرحلة الثالثة التي حددها الجيش الإسرائيلي ضمن خطط للحرب، والجيش ينتظر المستوى السياسي لتحديد خطة ما بعد الحرب، فهو لا يستطيع الإنسحاب وترك الأمور في داخل القطاع دون وجود إدارة تديرها، والجيش لا يريد ان يكون هو المسؤول عن إدارة القطاع
سابعا- ادارة البيت الابيض إستطاعت ان تدير المعركة في كل المنطقة ومنعت أي سياسات قد تؤدي للإضرار بالعملية العسكرية التدميرية التي لم يشهد لها العالم مثيلا منذ الحرب العالمية الثانية في القرن الماضي ولا تزال، فهي عملت على عدم توسيع المعركة منذ البدايات "الآن لا مانع لديها من حرب محدودة في لبنان" ومنعت اي تحرك في مجلس الأمن، ومنعت اي مساعدات دون إذن إسرائيلي، ومنعت النظام الرسمي العربي من اخذ اي مواقف قد تعيق عملية تدمير قطاع غزة وتحويله لمنطقة لا تصلح للعيش، وزودت إسرائيل بكل متطلباتها وإحتياجاتها
ثامنا- كل من يراهن على الموقف الأمريكي بما يتعلق بعلاقته بإسرائيل فهو يقوم بذلك لتبرير ولاءه وتبعيته للسيد الأمريكي وهو يحاول أن يوهم الجماهير بأن أمريكا لا زالت تشكل وسيط في حين هي الخصم وستبقى كذلك، لأن مصالحها أساسها أولا وأخيرا هي قوة إسرائيل وبقاء إسرائيل وتسييدها على المنطقة ككل، لانها تشكل ذخرها وقاعدتها الإستراتيجية في منطقة غرب آسيا ككل، لذلك تدخلت فورا في البحر الأحمر ضد اليمن وبشكل مباشر لان هذا إختصاصها في حين الإختصاص الإسرائيلي هو في المشرق العربي وبالذات في بلاد الشام أمنيا وعسكريا
أخيرا، مخطيء من يظن ان ما تتناقله بعض الفضائيات يأتي من باب نقل الأخبار فقط، وأن ما يقوله بعض المحلليلين يأتي في سياق التحليل الموضوعي بقدر ما هو محاولات لوضع كل شيء في الحضن الأمريكي، وأن قدر المنطقة ككل مرتبط بما تريده امريكا، وأن لأمريكا مصالح تختلف عن المصالح الإسرائيلية...وأيضا مخطيء من يظن أن التوجه الأمريكي الآن هو نفسه كما كان في بداية العدوان، وإغتيال القائد العاروري هي البداية للتغيير في الموقف الأمريكي وبالذات تجاه حزب الله، وهي تقف الآن مع الموقف الإسرائيلي دون أن تصرح بذلك علنا "فما لا يأتي بالدبلوماسية سيأتي بالحرب"، و وجود المبعوث الأمريكي "هوكستين" في المنطقة كما يبدو ستكون الخطوة الأخيرة في مضمار الدبلوماسية
نخلص للقول، وليتحملنا الجميع، رغم كل المساندة والدعم لقطاع غزة وفي مختلف الجبهات إلا أن التقدير هذه المرة من محور المقاومة ومقارباته يبدو انه إستند للتخوفات التكتيكية على حساب المسألة الإستراتيجية، حساب يرتبط بوضع قواعد إشتباك لا يعيرها الإسرائيلي اي أهمية، وتحملها على مضض في بداية العدوان على غزة من منطلق تكتيكي وهو يضمر القرار المتخذ الذي يمثل بالنسبة له رؤيته الإستراتيجية لجبهة الشمال بعد أن حدد رؤية الجنوب ميدانيا بالتدمير والإبادة وضرب الحاضنة الجماهيرية وإضعافها وفتتها وحول الحياة في غزة لدرجة لا يمكن تحملها بجانب إضعاف القدرات العسكرية للمقاومة وبالذات القسام، والآن يأتي دور جبهة الشمال والذي سيكون بضوء اخضر ودعم أمريكي وأطلسي
واضح أن الأمور لم تحسم حتى الآن ولا نستطيع القول أن أمريكا وإسرائيل قد حققوا رؤيتهم الإستراتيجية، وهذا يستدعي من محور المقاومة أن يعيد قراءة المشهد من جديد، ويقيم سريعا كل المعطيات التي ظهرت وتحققت والتي ستظهر، وأن لا يثق بالتطمينات الأمريكية ويأخذ بجدية الموقف الإسرائيلي لأنه هو وحده المعبر عن الموقف الحقيقي للأمريكان وبالذات لما تريده الدولة العميقة هناك، وكيف ترى مصالحها بعد أن يتم حسم المعارك لصالح إنتصار إسرائيلي لا لبس فيه، وهذا يتضح وبشكل واضح عندما إستطاعت أمريكا أن تمنع العالم ككل وعلى رأسهم الأنظمة العربية الرسمية وأن تضلل محور المقاومة، بما ادى لتدمير وإبادة وتطهير عرقي وعلى مرأى من الجميع، ويكفي أن نقول أن هذا المشهد هو ما أرادته أمريكا لترعب كل المنطقة وتردع القاصي والداني، بل تجعلهم يرتجفون ويرتعدون مما قد يحل فيهم وفي دولهم إضافة إلى إنهاء "غزة" لعقود من الزمن، فبدل أن ببتلعها البحر كما أراد "رابين" يتم تحويلها لركام تستحيل الحياة فيها.