قال القاتل.. لن أمنحك نعمة الموت.. كي تعيش ما تبقى لك من عُمر.. متألماً حزيناً.
هذا ما قاله القدر لوائل الدحدوح... في الزمن الذي صار فيه الموتُ أمنية، والحياة حملاً ثقيلاً على من نجا.
واجه الموت الأول عندما عاد ليجد بيته قد تحول إلى مقبرة، دفن تحت ركامه من كانوا في انتظاره لقضاء ساعة معه، اختلسها من عمله الأكثر استدعاءً للموت من أي عمل آخر.
إبقَ قليلاً معنا.... قالت العائلة لوائل.
لا أستطيع فالملايين تنتظرني على الشاشات.... قال وائل ومضى.
الجندي المدجج بالسلاح.. والمحمي في جوف دبابة لا تخترقها القذائف، والمتحصن في خندق وراء أكياس الرمل، وفوقه أسراب طائرات قاذفة ومقاتلة ومسيرة لحمايته، يواجهه وائل بسترة واقية مكتوب عليها "صحافة"، وبالميكروفون والكاميرا التي يحملها زميله المصور، وفي كل مكان على وجه الأرض تجري فيه حروب تكون كلمة صحافة هي الحماية الوحيدة، إلا في الزمن الإسرائيلي حيث مفردة صحفي تستدعي القتل، إن لم يكن إعداماً من مسافة صفر، أو قنصاً من بندقية، فالمسيرات وكاميرات الطائرات، إن أخطأت هدفاً عسكرياً فلا تخطئ الصدر المكتوب عليه "Press" حدث ذلك مع زميلة وائل شيرين أبو عاقلة، وها هو يحدث مع زميله وابنه حمزة، وكأن القدر عاقب الإبن بالموت، وعاقب الأب بحزن أبدي.
وائل الدحدوح.. الصحفي المتمكن، والمقتحم بشجاعة لكل ساحات الخطر، كان يؤدي عمله في الحرب الواقعة على مسقط رأسه وأهله كإنسان أولاً، وكمهني ثانياً، وكوطني أصيل دائماً.
وائل الدحدوح.. الذي خبأ حزنه في الموت الأول، لأقل من يوم واحد، ليعود إلى الميدان، ناقلاُ الحقيقة للملايين التي تنتظر اطلالته الهادئة، الأقوى من صخب وأزيز الطائرات.
وائل الدحدوح... إعلامي فيه كل المواصفات والشروط التي تجعل منه نموذجاً يقتدي به كل إعلاميي هذا الجيل، والأجيال التي تأتي من بعد.
وائل الدحدوح.. الذي التقطت الكاميرا الحزينة صورته وهو يقبل يد ابنه حمزة.. يقبلها عن الأمس واليوم والغد.
بكيت نيابة عنه، فدموع من فقد أعز الأحباب تتجمد في الحلق، وتغلف الروح بوجع لا يحسه إلا هو.
ودَّ وائل أن يظلّ ممسكا بيد حمزة وأن يذهب معه إلى بيته الأخير.. وكأني به يقول بلغة الصمت الأبلغ من الصوت... وداعاً يا حمزة، وداعاً يا حفيد غزة، وغداً سأعود لأوصل رسالتك ورسالتي.. إلى الكون كله.
لو عشت يا بني.. وشاهدتُ ذلك اليوم الذي تتوقف فيه هذه الحرب المجنونة، ويتوقف قتل أبنائنا وأحفادنا، ويتوقف فيضان الدم الذي غمر بلدنا الجميل.. فأول عمل سأقوم به.. أن أضع على ضريحك وردة.