سوف تصدر محكمة العدل الدولية غدا الخميس ، والموافق ٢٠٢٤/١/١١، قرارها بشأن الدعوى القضائية ،التي تقدمّت بها جمهورية جنوب أفريقيا ، متهمةً إسرائيل بأرتكابها جرائم ابادة جماعيّة في قطاع غزّة .
أبدأُ بالإبعاد الاخلاقية و السياسيّة للدعوى:
لم تتقدّمْ بالشكوى ضّدَ ما ترتكبه إسرائيل في غزّة ،امام محكمة العدل الدولية ،دولة عربية أو إسلامية ، وإنما جمهورية جنوب أفريقيا . اي دافع الشكوى لم يكْ قومياً أو دينياً ، وانما انساني وأخلاقي و قانوني ، ولو تمعّنَ قضاة المحكمة بهذا الامر ( دوافع الشكوى ) لأصبحوا اكثر حرصاً من المُدّعي ( جنوب أفريقيا ) على إصدار حكم قضائي تتجلى فيه الإنسانية والاخلاق والقانون بأجمل وأوضح الصّور .
إقدام جمهورية جنوب أفريقيا على هذه المبادرة هو إحياء لتاريخ البلد النضالي ،في زمنٍ عّزَ فيه سلوك الحق والمبادئ وسادَت فيه تجارة السياسة والنفاق .موقف جمهورية جنوب أفريقيا هو تكريس لما صّرحَ به الزعيم الأفريقي و الرئيس الراحل نيلسون منديلا،حين تحرّرَ من السجن عام ١٩٩١ ، بعد قضائه ٢٧ عاماً ، ” أن حريتنا لم تكتمل مالم يتحرر الشعب الفلسطيني ” .
تدركُ دولة جنوب إفريقيا أنَّ سبقها لدول العالم ومبادرتها بمقاضاة إسرائيل هو شرفٌ كبير لشعبها ، ومسؤولية تأريخيّة ، كونها مواجهة مفتوحة مع الصهيونية العالمية المدعومة من أمريكا والغرب ، لذا حرصت على ان تتبنى وحدها اجراءات المقاضاة امام المحكمة ، و رفضت ، و بأسلوب دبلوماسي ، طلبات بعض الدول في المشاركة في الدعوى كالاردن و تركيا و ماليزيا وبوليفيا ، ونصحت هذه الدول بعدم الانضمام رسمياً لها في ذات الدعوى لضيق الوقت وتجنب خلط الأوراق ، وان لدى جمهورية جنوب أفريقيا الارادة السياسية الشاملة في السياق و الخبرة اللازمة (القدس العربي ،٢٠٢٤/١/٩ ) .
حرصت جمهورية جنوب أفريقيا على أن تتم جلسة المحكمة في اقرب وقت ، وفي موعدها المحدّد ليومي ١١ و ١٢ من الشهر الجاري ( كانون الثاني ) ، لذلك طلبت ونصحت الدول المذكورة بعدم الانضمام وتقديم مرافعات أخرى امام المحكمة ، كي لا تقوم المحكمة بتأجيل وتأخير الجلسة بذريعة استلام و دراسة مرافعات ومطالعات دول أخرى ، والتأخير يصّبُ في مصلحة الطرف المدعّي عليه وهو إسرائيل .
طالبت جنوب أفريقيا في دعواها ان تصدر المحكمة امراً قضائياً مؤقتا ضد اسرائيل لوقف إطلاق النار في قطاع غزّة ،كون اصدار هذا الأمر خطوة اساسية وضرورية لحماية الفلسطينيين من الضرر الحاصل والذي لا يمكن اصلاحه ،كما طالبت ايضاً بالسماح للفلسطينيين بالعودة إلى منازلهم والتوقف عن حرمانهم من الغذاء والماء والمساعدات الانسانية،والامتناع عن التحريض على الابادة الجماعية ومعاقبة من يقوم بذلك .
تشير الوقائع السياسية في إسرائيل والميدانيّة في غزّة إلى حقيقة ارتكاب اسرائيل جريمة الابادة الجماعية و جرائم الحرب ، حيث تتوفّر مقومات ارتكاب الجريمة ،وهما نيّة اسرائيل بارتكاب الجريمة ووقائع على الارض تؤكد وتكّرس هذه النيّة . تصريحات المسؤولين الاسرائيليين الداعية علناً إلى تسويّة القطاع في الارض ،وإلى استخدام القوة النووّية ضّدَ غزّة ،تُعّبرعن ارادة ونية الكيان بارتكاب جريمة الابادة ، وما يعزّز هذه الارادة وهذه النيّة هو مشاهد الدمار والقصف والقتل واستخدام الأسلحة المُحّرمة والتعمّد في استهداف الأطفال و المدنيين .
لقرار المحكمة العاجل و القاضي ( كما هو متوقع ) بالطلب لإسرائيل بوقف النار في غزّة ، والذي سيليه ،بعد استكمال الاجراءات القانونية و القضائية قرار آخر بإدانة إسرائيل لإرتكابها جريمة الابادة ،تبعات سياسية و دبلوماسية مهمة .
انعقاد المحكمة يوم غد ،الخميس ، والموافق ٢٠٢٤/١/١١ ، يتزامن مع موجة الغضب والاستنكار العالمي الشعبي ضّدَ ما ارتكبته إسرائيل ،وما تزال ، من جرائم بحق المدنيين و الأطفال . لا يمكن لقضاة المحكمة تجاهل صدمة و استنكار الرأي العام الدولي ازاء ما ترتكبه إسرائيل في القطاع ،و مطالبات الشعوب و جميع دول العالم بوقف القصف والقتل على المدنيين في غزّة ،لاسيما والمحكمة معنيّة بفضّ النزاعات والعمل على استتباب الامن والسلم العالميين ، ومنع ارتكاب جرائم الابادة والحرب وجرائم ضد الإنسانية والتهجير والتطهير العرقي . لا شّكَ بإدراك قضاة المحكمة بأنَّهم امام مناسبة قضائية وإنسانية لإثبات مكانة ومصداقية المحكمة ،و ترسيخ دورها في وعي الشعوب ، وانها ( اي المحكمة ) غير مُسيّسة و مُتحرّرة من سطوة اللوبيات الصهيونيّة .
قرار المحكمة سيعّززْ قباحة الصورة التي التقطتها شعوب العالم عن إسرائيل ،بانها كيان لا فقط مُحتلْ، وانما مجرم أبادة وحرب .
قرار المحكمة سيفّندْ ما ترّوج له امريكا والغرب بالقول بأن ما تقوم به إسرائيل هو ” ممارسة حّقْ الدفاع عن النفس ” ، وهي أكذوبة مختلقة او بُدعة ،حيث لا لمحتل لارض ولشعب حق الدفاع عن النفس تجاه مقاومة الشعب المشروعة قانونياً ودولياً ضد الاحتلال .
قرار المحكمة سيحرج جميع دول العالم ، التي تعتّز وتتباهى في ديمقراطياتها و انظمتها السياسية واحترامها لحقوق الإنسان ، حين تواصل دعمها لكيان ، ليس فقط محتلا وغاصبا ،و انما مجرم ابادة و حرب .
على الدول العربية والتي لها علاقات سياسية و دبلوماسية واتفاقيات سلام وتطبيع مع إسرائيل ان تفكّر بأنَّ علاقاتها ليست فقط مع كيان محتل ومغتصب وله اطماع توسعيّة حتى في بلدانهم ،و انما ايضاً مع كيان ارتكب الجرائم تلو الجرائم ، ومنذ عام ١٩٤٨ ، و أستحّقْ اليوم لقب مجرم حرب و ابادة جماعية من لدّن محكمة العدل الدولية .
الطلب ، وبقرار من المحكمة ،غداً ، و من إسرائيل، بايقاف الحرب ،هو تمهيد لإدانتها بجرائم الابادة الجماعية و جرائم حرب .