لا تزال عالقة في ذهني مقابلة أجريت مع الأخ يحيى السنوار ضرب فيها بكفه على رقبته قائلاً "الأسرى في رقبتي" أي أن تحرير الأسرى من السجون الإسرائيلية هو أمانة معلقة في رقبته إلى أن يحققها. ولقد ظل الرجل الذي أمضى 22 عاماً في السجون الإسرائيلية عند كلمته ووعده إلى أن كان هجوم السابع من تشرين أول (أكتوبر) واختطاف 253 من الرهائن، وبدء الحديث عن إطلاق سراح جميع الرهائن الإسرائيليين الذين في الأسر الفلسطيني مقابل تبييض السجون وإطلاق سراح جميع الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين عملا بمبدأ الكل مقابل الكل. وقد أدى ذلك إلى حالة من الفرح الغامر بين المعتقلين وذويهم لاعتقادهم بأن الفرج بات في متناول اليد خلال أيام أو أسابيع. ولكن ذلك الفرح تبدد تدريجيا مع تعثر مفاوضات تبادل الأسرى واستمرار الحرب وإصرار إسرائيل على مواصلاتها واستمرار القتل والدمار والإبادة الجماعية للشهر الخامس وما زالت الحرب مستمرة.
صفقات تبادل الأسرى في الماضي
وبالمناسبة فإن اطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين مقابل أسرى إسرائيليين ليس بالأمر الجديد فقد سبق أن تم في ثلاث صفقات احداهما مع حركة فتح في 23-11-1983 حيث تم تحرير 4765 أسيرا فلسطينيا مقابل ستة جنود إسرائيليين، والثانية مع الجبهة الشعبية القيادة العامة والمعروفة بصفقة جبريل في 21-5-1985 وتم تحرير 1150 أسيراً من بينهم 400 محكومون بأحكام السجن المؤبد لاشتراكهم في عمليات أسفرت عن مقتل إسرائيليين مقابل جنديين إسرائيليين، والثالثة الصفقة المعروفة باسم صفقة شاليط في 11-10-2011 وتم فيها تحرير 1027 أسيرا من بينهم يحيى السنوار مقابل الجندي شاليط ، إضافة إلى عدة صفقات تبادل بين إسرائيل وحزب الله تم في بعضها اطلاق سراح أسرى فلسطينيين إضافة إلى اللبنانيين. وفي جميع هذه المرات لم تكن هناك عمليات قتالية اسفرت عن ضحايا أو دمار كما هو الحال الآن.
حل شيفرة السنوار 1111
ومن الواضح أن الأخ يحيى السنوار لم ينس وعده لرفاقه الأسرى الذين تركهم وراءه في السجون بعد أن تم تحريره هو نفسه عام 2011 ضمن صفقة شاليط. فبالإضافة إلى المقابلة التي ضرب خلالها بكفه على رقبته، قال قبل حوالي سنة في احدى خطبه "اذكروا هذا الرقم 1111 وقد حاول الكثيرون تفسير هذا الرقم وتعددت الاجتهادات في تفسيره وتخمين ماذا يمكن أن يرمز اليه ولكني أعتقد أنه كان يعني ببساطة 11/11 وهو تاريخ صفقة شاليط ومحاولته الإيحاء بصفقة مماثلة وتأكيد التزامه بذلك.
ولقد أثبت صمود المقاومة لهذه الفترة الطويلة أمام أضخم قوة عسكرية في الشرق الأوسط ومن الأقوى في العالم، ولا تزال قادرة بعد خمسة أشهر من القتال على إطلاق الصواريخ نحو العمق الإسرائيلي، أنه تم الاعداد لعملية 7 أكتوبر منذ وقت طويل وأن الحرب مستمرة وربما لأشهر قادمة ولن تتوقف حتى لو استطاعت إسرائيل الوصول إلى قادة حماس والمقاومة، لأن الكوادر الميدانية باقية وستزداد زخماً من أبناء الأجيال القادمة التي ستظل تقاوم ولو بشكل حرب عصابات إلى أن يندحر الاحتلال وتتحقق تطلعات شعبنا للاستقلال والعيش بكرامة.
ومع أن من السابق لأوانه تقييم نتائج الحرب الحالية من خلال ميزان الربح والخسارة cost and benefit إلا أن من غير الممكن استمرار تمترس النقاش والجدل واهتمام الرأي العام حول تحرير الأسرى واعتبار تحريرهم، إن تم، بأنه حقق الهدف من هذه الحرب، لأن الثمن الذي تم دفعه حتى الآن، وهو ما ارتفاع مستمر، يفوق بشكل خيالي ثمن تحرير الأسرى ويجب أن يوظف في تحقيق استراتيجية أوسع لإنهاء الاحتلال ونيل الاستقلال.
تحرير الأسرى أم الاقتحام السياسي
إذا كان الهدف الذي أراده قادة القسام من هذه الحرب هو تحرير الأسرى والوفاء بالالتزام الذي قطعه السنوار على نفسه، فقد وقعوا في خطأ تاريخي لأنهم لم يأخذوا بالحسبان إمكانية قيام إسرائيل بالرد على هجوم السابع من تشرين ولم يتوقعوا الثمن الباهظ جداً الذي يدفعه شعبنا ثمنا لذلك. وأما إذا كان الهدف مسبقاً يتعدى تبادل الأسرى إلى هدف سياسي وهو إعادة فرض القضية على جدول أعمال المجتمع الدولي وصولاً إلى نيل حقوقنا الوطنية، فذلك شأن آخر.
لقد أسفرت الحرب على القطاع حتى صباح الأمس 17-2-2024 وفقا ً لإحصاءات وزارة الصحة في القطاع عن سقوط أكثر من 28858 قتيل معظمهم من الأطفال والنساء وآلاف المفقودين تحت الركام و68677 جريحا، وتدمير أكثر من 70% من المباني وتحويل مدن وأحياء ومخيمات بكاملها إلى أكوام من الركام وتشريد أكثر من مليون ونصف مواطن، وتدمير البنية التحتية وكل مقومات الحياة.
ولقد استغلت إسرائيل الحرب لتحقيق هدف سياسي موجود مسبقاً افي خططها واستراتيجياتها ومحفوظة في الدواليب انتظاراً لحين تسنح الفرصة بتنفيذه، وهو تفريغ غزة من شعبها وضمها لإسرائيل والاستيلاء على ثرواته الطبيعية بما في ذلك حقول الغاز على الشاطئ. ولقد استمعت اليوم إلى تسجيل صوتي مسرب للرئيس المصري الراحل حسني مبارك يقول فيه أنه قبل ستة أشهر من تنحيته عن الحكم أي أواخر عام 2010 تحدث مع نتنياهو فسأله نتنياهو لماذا لا نجد "حته" ونرسل اليها سكان غزة مشيرا إلى سيناء وأنه رد عليه بأنه "لا أنا ولا اللي أتخن مني يستطيع ذلك". وهذا يؤكد بأن محاولة ترحيل سكان غزة إلى سيناء ليست رد فعل على هجوم 7 تشرين وإنما هي مخطط إسرائيلي قائم وموجود وأن إسرائيل اتخذت من هجوم تشرين مبرراً وفرصة لتنفيذه.
المخطط الفلسطيني لمواجهة مخطط إخلاء القطاع
ومع التأكيد على أهمية تحرير الأسرى من السجون الإسرائيلية إلا أن تداعيات الحرب ونتائجها الكارثية لم تعد تسمح بأن يكون الأول على رأس جدول الأعمال الوطني، وأن المخطط الإسرائيلي لتحقيق هدف سياسي من وراء هذه الحرب يجب أن يواجه بمخطط استراتيجي يتعدى قضية تحرير الأسرى إلى انهاء الاحتلال وبناء الدولة المستقلة على ترابنا الوطني. وهذا الأمر يتطلب تعزيز الصمود والالتفاف حول راية الوطن والتخلي عن الاعتبارات الفئوية الضيقة.
فالإنجاز الحقيقي الذي حققته هذه الحرب هو إعادة فرض القضية الفلسطينية على رأس جدول الأولويات الإقليمية والدولية وهذا أمر إن لم يتم التقاطه في اللحظة المناسبة والبناء عليه فقد يتلاشى من بين أيدينا ونبقى على ركام بيوتنا المدمرة وأشلاء الضحايا لا نلوي على شيء. والتقاط الفرصة رهن بإدراك حماس لأهمية هذا الأمر والحساسية التي تحيط به وتقدمه لشعبها كنقطة انطلاق نحو بدء مرحلة جديدة من العمل الوطني بعيدا ً عن الأنانية السياسية قريبا جداً من روح الجندي المجهول الذي مهد للعمل المشترك في اطار رؤية وطنية متكاملة للكل الفلسطيني، مما يدحض ادعاءات الطرف الآخر ضد حماس ودورها المستقبلي ومواجهة العالم بوجه فلسطيني جديد، وجه الشعب الذي قدم عشرات الآلاف من الضحايا ومن حقه أن ينعم بالحرية والاستقلال والديمقراطية الحقيقية، ولتسقط مشاريع التطرف العنصري الفاشي والمشيخي الخرافي الذي يهيمن على سياسة الحكومة الاسرائيلية الحالية.