يا إلهي.. ما يكتبه المواطنون المتبقون في شمال قطاع غزة لا يُصدق، كأن البشرية عادت إلى عصور الغاب حيث لا قوانين ولا إنسانية بلغت من فقرها مستوى لم تصله في زمن الهمجية حيث الناس بدؤوا يموتون من الجوع ... في أي عصر نحن وأي دولة تفعل هذا، وأي عالم يعرف تفاصيل موت هو الأكثر بشاعة في تاريخ الصراعات .... موت بطيء تتوقف فيه أعضاء الجسم تباعا يصاحبه ألم لا يمكن احتماله، وعندما يصاحب هذا الألم شعور بالحزن على فقدان الأهل والبيت ممزوجاً بقهر العجز والخذلان يصبح الموت شاحباً.
«اشترينا دقيق على أنه من الشعير والذرة وعندما خبزناه فاحت رائحة كريهة كأنه جثة متحللة»، هكذا يكتب أحدهم وطفلة صغيرة تصرخ جوعا «بدنا أكل، متنا من الجوع». مدير مستشفى كمال عدوان الدكتور حسام أبو صفية يقول، «نستقبل أطفالا يشكون من قلة الغذاء ويموتون وهذا أصبح سببا رئيسا للموت بين الأطفال».
يتعرض شمال غزة لأكبر مأساة إنسانية. فالحرب أصبحت من عاديات الأشياء مقابل مأساة الجوع فالصاروخ يقتلك بلا ألم ضربة واحدة وانتهى، لكن الجوع يفتك بك في رحلة عذاب لا تطاق. ربما يعرف الأسرى الذين خاضوا إضرابات طويلة عن الطعام قسوة الجوع كسكان غزة الذين يتعرضون لتجويع متعمد يمعن في تعذيبهم.
قال صديقي الدكتور غاضبا وهو ينتقد مقالي السابق عن السياسة مطالبا التوقف عن ترف حديث السياسة بينما الجوع يطحن عظام البشر. «الناس يصرخون من الجوع وأنت تتحدث عن الدولة وحوارات العواصم ومفاوضات المسار السياسي ونظام الحكم وتجديد سلطة». معه حق فَلتفنَ كل السلطات التي لا تطعم طفلا جائعا ولا توقف العالم على قدم واحدة قبل أن تصرخ في كل العواصم أن شعبنا يموت جوعاً.
إسرائيل ليست عابثة في مشروعها منذ أن بدأت حربها الوحشية مستغلة ما حدث لها من إهانة ونزع لماء وجه جيشها الذي تم ضبطه متلبسا بالنوم والفشل لتحرق أخضر غزة ويابسها في محاولة لاستعادة ماء الوجه، ولكن في نفس الوقت هي فرصة لاقتلاع غزة من جذورها مرة وللأبد، بمشروعها القديم الجديد الذي شعرت أن اللحظة والفرصة لن تتكرر لتنفيذه.
لم تبدأ الحرب في الشمال عبثا وهي تعرف أن جزءا كبيرا من محتجزيها متواجدون في الجنوب. فقد توزعت الكيبوتسات على امتداد مقابل القطاع كله وتوزع المحتجزون على القطاع ولم يكن عبثا أنها طالبت سكان شمال الوادي بالنزوح نحو جنوبه ليس للقيام باجتياحها البري تجنبا لوجود المدنيين، بل إن المدنيين هم المشكلة المراد ترحيلها نحو الوسط ومن الوسط للجنوب ومن الجنوب إلى جنوب الجنوب في سيناء. هذا ما يحدث في رفح وتلك هي النوايا والمشروع، فلم تجتاح الجنوب في أول ثمانية أسابيع من الحرب وتلك لم تكن مصادفة وهي تعرف أن الأسرى وقيادة «حماس» في خان يونس ولكنها كانت تعطي للناس متسعا للرحيل على حساب أهداف الحرب والمحتجزين ....!
لم يرحل كل سكان الشمال فأين يذهب هؤلاء الفقراء الذين لا يملكون أجرة مواصلات النزوح، وبمنطق الحروب انتهت مرحلة الاجتياح البري من الشمال فما هو مبرر عدم عودة الناس هناك؟ هنا بيت قصيد جنون العقل الإسرائيلي ليستمر في إبادة الناس بطرق أخرى أكثر توحشا من القصف والدعس بالدبابات التي تحقق موتا سريعا، بالجوع الذي سيدفع الناس للرحيل جنوبا حين يجدون أطفالهم يموتون أمامهم جوعا.
احتفل طلال النجار ونشر مقطعا مصورا عندما حصل على نصف رغيف من الخبز وحبتين من الفلافل في مخيم جباليا كأنه امتلك العالم وهو يصرخ، «خبز أبيض خبز أبيض»، لقد أصبح الحصول على كسرة خبز يحتاج إلى معجزة .. لن نتصور ما يحدث هناك نحن، المترفين، بعيشنا خارج المكان، يقول الدكتور عبد الله أبو الهنود، إن الحرب علينا أصبحت أخف المصائب قياسا بالمأساة الكبيرة من انعدام لكل شيء وسيادة الفوضى والحرمان من كل شيء.
بئسا لعالم يصاب بالشلل أمام موت طفل من الجوع، وبئساً لعالم يقف متفرجا على ما تفعله إسرائيل وما تمارسه من إبادة وبئساً لقوى كبرى تمارس ترف نقاش إعطاء الفلسطينيين دولة ولكنها لا تستطيع إدخال كيس من الدقيق، وبئسا لعالم يبدو صغيرا جداً أمام الصلف الإسرائيلي وفعله البربري، وبئسا لأمة عربية لا تقيم الدنيا ولا تقعدها عندما يتعرض أحد شعوبها لأبشع ما عرفته البشرية وتقف صامتة.
الأشياء أكثر سوادا مما نظن في أسوأ كوابيسنا. مجاعة مع سبق الإصرار والترصد وإعدام بالتجويع بلا رحمة وعالم متفرج يتواطأ بالصمت، ورأس قيادة هذا العالم تفتح جسوراً جوية وبحرية للسلاح كي تقتل غزة ويتكفل الإسرائيلي بمن نجا من قتل السلاح بالقتل جوعا ... فمن ينقذ غزة وشمالها؟ من يوقف كارثة التجويع التي يصاحبها إعدام المستشفيات هناك؟ من يمرض يمت، ومن يجع يمت، ينتشر المرض والحزن والموت وتموت معه الإنسانية ... لكن غزة التي تراقب كل شيء وتترصد الأخبار وفعل السياسيين ومواقفهم لن تسامح أحدا.