كما كان متوقّعاً، فقد رفعت الولايات المتحدة "الفيتو" في وجه العالم كلّه، ولم تبالِ بالموقف الأوروبي، وهو الحليف العالمي الأوّل لها في الموقف من هذه الحرب، وطبعاً أعادت "صفع" العرب كلّهم للمرّة (الألف)، وقرّرت أن لا يكون أيّ وقف لإطلاق النار من شأنه إنهاء الحرب.
وقف إطلاق النار يجب أن يظلّ من وجهة النظر الأميركية هدفاً قابلاً للتحقيق فقط عندما يؤدّي إلى هزيمة المقاومة في قطاع غزّة، وإلى صورة نصر إسرائيلية، وإلّا ستستمر الحرب، وتستمر الإبادة، ويستمرّ التجويع والترويع، بما في ذلك موت عشرات آلاف من الأطفال، وهلاك الناس في ظروف لم يسبق أن تعرّض لها بنو البشر في كامل العصور الحديثة.
الأوبئة والأمراض، وتلوّث ما يتيسّر بصعوبة بالغة من مياه الشرب، وتحويل الدواء إلى سلاح للتدمير الشامل في القطاع لم يعد يثني الولايات المتحدة الأميركية عن تصميمها لحماية دولة الاحتلال وتأييد حربها المعلنة على الشعب الفلسطيني، والتساوق مع كلّ تفاصيل الإبادة الجماعية.
ومع أنّ الولايات المتحدة تدرك بعمق الكلفة العالية لهذا التأييد على مكانة وسمعة الدولة "الأقوى" في العالم، وعلى مصالحها المباشرة، إلّا أنّها ماضية في هذا الطريق مهما كلّف الأمر.
والسؤال الذي يجب أن يشغل بال كلّ مراقب، وكلّ متابع، وكلّ سياسي فلسطيني وعربي، وكلّ إنسان في هذا العالم هو: ما هو السبب الحقيقي لهذا الإصرار الأميركي بالرغم من الكلفة الهائلة التي ينطوي عليها هذا الإصرار؟
وليس المقصود بالإجابة عن هذا السؤال هو ما نعرفه جميعاً من العلاقة، والتحالف الخاص، الوحيد والفريد ما بين الولايات المتحدة وإسرائيل، ولا دور الأخيرة في حماية المصالح الأميركية و"الغربية"، وطبعاً ليس الدور الوظيفي لإسرائيل في تمكين الولايات المتحدة من إبقاء سيطرتها على الإقليم، لأنّ كلّ هذه الأسباب المعروفة يحفظها الناس في الإقليم عن ظهر قلب .. وإنّما المقصود بالإجابة عن هذا السؤال هو: كيف للولايات المتحدة أن تؤمّن لإسرائيل مثل هذا الدور في ظلّ ما ارتكبته من جرائم، وفي ظلّ ما وصلت إليه من توحُّش، وفي ظلّ كلّ هذا الدمار، وهذه الإبادة وصولاً إلى اعتبار كلّ طفل يزيد عمره على أربعة أعوام هدفاً مشروعاً للقتل والتجويع والموت باعتباره ــ أي هذا الطفل ــ من أنصار حركة "حماس"، ويستحقّ كلّ ما تقوم به إسرائيل!؟.
لم تشهد البشرية في تاريخها الحديث على الأقلّ "مسوّغات" للقتل والإبادة على هذه الشاكلة، لا في عهود ديكتاتوريات غاشمة، ولا حتى في مراحل النكبات التي مرّت بها البشرية في الحروب الطاحنة، ولا حتى في "مسوّغات" الأنظمة العسكرية المستبدّة في طول العالم وعرضه، من جمهوريات الموز، إلى حروب الأعراق في آسيا وإفريقيا، ولا في الحروب الدينية والأوروبية، ولا في أيّ صراع وصل لنا مكتوباً أو موثّقاً أو حتى في الروايات الشفوية عن تلك الحروب والصراعات بكلّ أنواعها وأشكالها.
عندما تتساوق الولايات المتحدة مع كلّ هذه الفظائع فإنّ ثمة أسباباً حقيقية تقف خلف هذا التساوق، أسباباً أخرى، إضافية، غير معلنة، ولكنها في الجوهر هي الأسباب المباشرة إضافةً إلى كلّ الأسباب التي نعرفها، ونعرف عن ظهر قلب كلّ تفاصيلها.
سأُغامر هنا في محاولة الإجابة عن هذه الأسباب، وسأبدأ بالسؤال الآتي:
لو كانت الولايات المتحدة مطمئنة أنّ بمقدور إسرائيل، ولو نسبياً الوصول إلى الأهداف التي أعلنتها لهذه الحرب دون أن "تتورّط" بكلّ هذه الوحشية، يصبح السؤال هو: ما الحاجة إلى كلّ هذه الوحشية؟
أي أنّ الولايات المتحدة قد أصبحت على علمٍ ومعرفةٍ تامّة بأنّ تحقيق أهداف إسرائيل بالوسائل العسكرية قد استنفدت تماماً، ولم يتبقّ أمامها سوى هذه الوحشية بالذات.
والحقيقة هنا، أيضاً، أنّ خسارة إسرائيل للحرب بالمعنى العسكري والأمني للكلمة تعني نهاية دورها الوظيفي والإقليمي، وانكماشها، وتراجع قدرتها على أداء الدور المطلوب في تأمين الهيمنة الإقليمية للولايات المتحدة و"الغرب".
أي أنّ السرّ الحقيقي لهذا السلوك الأميركي المعيب هو أنّ الولايات المتحدة لن "تغامر" بخسارة الإقليم بعد أن ثبت بالوجه الشرعي خسارتها للحرب في أوكرانيا، وبعد فشلها في وقف التمدّد الصيني، وعجزها في تحويل تايوان إلى أوكرانيا جديدة، أو إلى إسرائيل جديدة.
بل إنّ الحقيقة هي أنّ الولايات المتحدة باتت مستعدّة للذهاب إلى أقصى مدى ممكن بالذات في الحرب على قطاع غزّة، لأنّ هذه الحرب هي "أملها" الوحيد في "التعويض" عن الخسارات الكبرى الأخرى، وهي وسيلتها الوحيدة لإعادة "هندسة" الإقليم بما يقطع الطريق على التمدّد الروسي في المياه الدافئة، وعلى الصين في إعادة ربط التجارة الدولية بـ "طريق الحرير"، وهو الإقليم الوحيد في العالم ــ الإقليم الشرق أوسطي ــ الذي يمكّن الولايات المتحدة من الإبقاء على سيطرتها المطلقة على بحار وممرّات الإقليم التي تتحكّم بقدرٍ كبير من هذه التجارة الدولية، وهو الإقليم الوحيد، أيضاً، الذي يؤمّن تدفّق النفط والغاز، ويحرم روسيا من أن تكون سيّدة مصادر الطاقة العالمية.
أي أنّ السرّ الأهمّ في هذه الصلافة الأميركية التي لم يسبق لها مثيل هو أنّ الولايات المتحدة باتت تستشعر أنّها على أبواب أكبر خسارة استراتيجية لها بعد الحرب العالمية الثانية، وأنّ الحرب على غزّة بالذات ــ غزّة الصغيرة هذه ــ هي الحرب التي ستعني في ضوء واقع التوازنات الدولية أنّها هي "أمّ المعارك" و"أمّ الحروب"، وهي ــ أي أميركا ــ ستعتبر الفشل الإسرائيلي فيها هو بمثابة خسارة ربّما تعادل ربحها لـ "الحرب الباردة"، وبمثابة التعويض الأكبر للشرقّ كلّه عن سقوط الاتحاد السوفياتي، وعن عصر "العولمة" و"التحكّم" بالتجارة الدولية، وعن عصر "القطب الأوحد"، وعصر "الشرطي الوحيد" لهذا العالم.
المسألة يا سيّدات، ويا سادة أبعد من مجرّد انتخابات أميركية حتى ولو أنّ هذه الانتخابات حاضرة بقوّة في مشهد الحرب، والمسألة أعمق من مجرّد أزمة داخلية، وإسرائيل تعيش أكبر أزمة في تاريخها، وهذه الأزمة داخلياً وخارجياً حاضرة، أيضاً، في مشهد هذه الحرب، والمسألة ليست مسألة "حماس"، مع أنّ القضاء عليها هو هدف مباشر لإسرائيل وأميركا و"الغرب"، وحتى لبعض العرب، وإنّما مسألة النتائج التي يمكن أن تترتّب على هذه الحرب في كلّ الأبعاد وأعمقها، ولهذا فإنّ الولايات المتحدة تتساوق كلّياً مع كامل مشهد هذه الحرب، ومع كامل تفاصيل التوحُّش فيها، وهي مستعدّة على ما يبدو لأن تذهب بها إلى أقصى الحدود اللاأخلاقية إذا لزم الأمر، وإذا ما تطلّبت مصالح ورؤى الولايات المتحدة ذلك.
على "حماس" أن تدرك ذلك كلّه، وعلى الكلّ الفلسطيني أن يعمل على أن تدرك "حماس" هذا كلّه، وأن يساعدها على إيجاد المخارج المطلوبة لإحباط المخطّط الأميركي.
هناك نقطة توازن يجب أن تُقاس بميزان الذهب، والتي من خلالها فقط يمكن إحباط هذا المخطّط الإجرامي الشرّير، وهو الوصول إلى صفقة، ليست كاملة الأوصاف، ولكنها كافية لإحباط المخطّط، ليست مثالية ولكنّها قادرة على إفشال المخطّط، ليست كلّ ما نريد، ولكنّها تنسف الأساس الذي يريده المخطّط.