من دون حسم هذه المعادلة يبقى تغيير الحكومات تحت ألف علامة سؤال.
وفي الحالة الفلسطينية، الراهنة والملموسة فإنّ أيّ حكومةٍ، بصرف النظر، ومع كامل الاحترام لها، بدءاً من خيارات الرئيس محمود عبّاس، ومروراً بشخوصها من رئيس الوزراء، ومن أعضاء الحكومة، وصولاً إلى برنامجها ومهمّاتها المرتقبة ستظلّ تراوح في نفس الدائرة التي راوحت بها ــ كلّياً أو جزئياً ــ الحكومات السابقة، طالما أنّ عليها كلّها شُبهة الإملاء الخارجي، وطالما أنّها ليست مُحصّلة توافقات وطنية، نحن بأمسّ الحاجة إليها، وطالما أنّها ليست ناتجة عن مُحصّلة انتخابات ديمقراطية.
أقصد أنّ الحكومة التي ترأّسها الرئيس الخالد ياسر عرفات هي الحكومة الوحيدة التي كانت ذراعاً لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكانت المنظمة تقوم بالحكم نيابةً عن المجلسين الوطني أو المركزي، وكان أعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة هم الحكومة، وكان رئيس "التنفيذية" هو رئيس الحكومة.
بعد تلك الحكومة بقيت المنظمة موجودة بصورةٍ معيّنة في تشكيلة الحكومة، ثمّ تحوّل وجود المنظمة في معظم الحكومات التي تلت هذه المرحلة، بتفاوت هنا، وآخر هناك إلى إرضاءات وإلى استرضاءات، أكثر منه مشاركة فعلية في قيادة الحكومات، أو التأثير في قراراتها، وفي سياساتها وبرامجها.
وتحوّل الأمر في بعض المراحل التي تلت حكومة المنظمة إلى ما هو أسوأ بكثير، عندما ارتضى وتراضى الكلّ المعني بالمشاركة في الحكومات أن تتحوّل السلطة الوطنية فعلياً وواقعياً إلى أكبر وربما أخطر بديل عن المنظمة، وبحيث تحوّلت المنظمة إلى ملحق من ملاحق السلطة الوطنية مالياً، و"إدارياً" على الاغلب، أيضاً، ويجري كلّ ذلك بعيداً عن أهمية إعادة النظر بوظائفها، هذا كلّه من جهة.
أما من جهة ثانية، فإنّ "تطعيم" أيّ حكومة بعيّنات معيّنة من المنظمة في الواقع الحالي للمنظمة سيظلّ بصورةٍ أو أخرى، بهذا القدر أو ذاك، بهذه الدرجة أو تلك أحد أشكال الالتفاف على هذا الواقع، وسيظلّ في الحقيقة واحداً من سياقات الممارسة الاستخدامية للمنظمة لصالح عملية الابتلاع التي تمّت بوتائر متسارعة من قبل السلطة للمنظمة.
أما من جهة ثالثة، فإنّ تعذّر التوافق الوطني على هكذا حكومة لأسباب يطول شرحها الآن، أو صعوبة إصلاح المنظمة، أو إعادة بناء بعض هياكلها لا يخلي طرف أيّ جهة من البحث عن الصيغة التي من شأنها حصر مهمّة أيّ حكومةٍ قادمة في دائرة التوافق الوطني العاجل لمهمّة أساسية من الناحية العملية، وهي قدرة هذه الحكومة على التصدّي الفعّال لمتطلّبات إعادة تأهيل وإعادة بناء قطاع غزّة، وذلك لأنّ الذي حلّ بهذا الجزء العزيز من الوطن هو كارثة بكلّ ما في هذه الكلمة من معنى، ولأنّ إسرائيل، والولايات المتحدة، وبعض الدوائر "الغربية" الملحقة بالسياسة "الغربية"، وربما بعض العرب يريدون أن "يخلعوا" التوافق الوطني عن طابع الحكومة التي يرغبون بها، ويريدون أن يقطعوا الطريق على الكلّ الفلسطيني أيّ إمكانيةٍ لكي تتحوّل الحكومة إلى رافعة من روافع إعادة بناء النظام السياسي على أسسٍ وطنية وديمقراطية حقيقية.
ولهذا بالذات فإنّ "حكومة الخبراء" مهما كانت ستظلّ ممكنة بقدر ما تكون توافقية بصورةٍ عاجلة، وأن تنصبّ جهودها الرئيسية في مواجهة الكارثة في القطاع، وفي تحضير الأجواء، والتمهيد ما أمكن للانتخابات التي هي أكثر من كونها استحقاقاً ديمقراطياً باتت ضرورةً وطنية.
الطبيعة العاجلة لـ"حكومة خبراء" متوافق عليها وطنياً، وبصورةٍ شاملة ما أمكن هي السبيل الأنجع لمواجهة خطط إسرائيل ــ مهما كانت هذه الخطط واهمة وموهومة ــ لخلق البدائل عن الكلّ الوطني الفلسطيني، بعد أن يُصبح ممكناً إضعاف بنية المقاومة السياسية والعسكرية في القطاع، وبعد أن يتمّ إضعاف وخنق السلطة الوطنية في الضفة الغربية، والعمل الإسرائيلي "المثابر" لخلق بدائل اجتماعية تحلّ ــ من وجهة نظر حكومة الاحتلال ــ محلّ المنظومات السياسية والحزبية التي ما زالت قائمة في الواقع الفلسطيني، بصرف النظر عن مدى التغيُّرات التي طرأت، والتي يمكن أن تطرأ، بالاتجاهات المختلفة في واقع التوازنات الداخلية لهذه المنظومات.
وهنا، أيضاً، فإنّني أقصد بصفة الاستعجال من جهة، وبالتوافقية الوطنية من جهةٍ أخرى أنّه إضافة إلى حجم وهول الكارثة، وكذلك أخطار البدائل لن يتمّ التصدّي الفاعل لها ما لم تكن أيّ حكومةٍ قادمة مستندة إلى شرعية التوافق الوطني، والتي هي الشرعية الممكنة في الظروف الراهنة قبل نضج وإنضاج الظروف الوطنية لعملية أوسع على صعيد الانتخابات الشاملة في كلّ الضفة والقطاع، وبصرف النظر عن موقف الاحتلال في مسألة القدس، لأنّ "اليمين الكهاني" لن يكتفي بمنع الانتخابات في القدس، كما كان موقف هذا الاحتلال حتى الآن، وإنّما سينتقل هذا "اليمين" في حجم عدائه لكلّ ما يمتّ للوطنية الفلسطينية بصلة، ولكلّ ما له علاقة، من قريبٍ أو بعيد بالأهداف والحقوق، وبالمشروع الوطني التحرّري وصولاً إلى منع الانتخابات كلّها أو وضع شروط جديدة عليها.
كما أنّ صفة الاستعجال والتوافقية الوطنية من شأنها أن تقطع الطريق على محاولات الولايات المتحدة الأميركية، ومن خلفها إسرائيل على كلّ محاولات "تعريب" الحلّ، وخصوصاً في القطاع، وذلك لأنّ هذا "التعريب"، اي بمعنى المشاركة العربية المباشرة في الترتيبات الأمنية أولاً، ثم الإدارية والمالية ثانياً، سيعني في نهاية المطاف التوافق ما بين هذه الترتيبات المزمع مشاركة العرب فيها والأهداف المعلنة، وغير المعلنة للاحتلال، والذي غالباً ما سترى الولايات المتحدة فيها مصلحة مباشرة، مبطنة، وهو الأمر الذي يعني أنّها ستتبنّاها في نهاية المطاف.
ولذلك، فإنّ المسألة ليست مسألة كون الحكومة، "حكومة خبراء" أم لا، وليست مسألة رئيس الحكومة، ولا أعضائها ــ على أهمية هذا الأمر ــ ولا حتى الخطط الطويلة والعريضة، بقدر ما هي مسألة إخراج الحالة الوطنية من مأزق الكارثة الإنسانية، وقطع الطريق على مخطّطات "التخلُّص" من الإرث الوطني كلّه، أو منع أن تشكّل هذه الحكومة بأيّ شكلٍ من الأشكال رافعةً وطنية من روافع العمل الوطني الراهنة، والملحّة بصورةٍ شديدة في هذه المرحلة بالذات.
وحتى لو أنّ "حكومة خبراء" ليس لها الطابع التوافقي والعاجل أخذت غطاءً محلّياً هنا، وآخر إقليمياً هناك، بل حتى لو أخذت غطاءً أميركياً و"غربياً"، وتظاهرت دولة الاحتلال أنّها ليست راضية عنها، أو تمنّعت قليلاً حول التعاون معها، فإنّ مثل هذه الحكومة ــ على ما أظنّ ــ لن تسترعي اهتماماً فلسطينياً حقيقياً في واقع الأمر.
لا تُستبدل الحكومات في ظروف استثنائية من نوع الظروف التي يمرُّ بها الشعب الفلسطيني إلّا بما يرتقي بها إلى مستوى التحدّيات الهائلة التي تواجهه، وبما يمثّله هذا الاستبدال من ضرورةٍ وطنية ملحّة، وبما تطرحه من طريق واضح المعالم نحو إخراج فعلي وحقيقي من براثن تبعات الكارثة الإنسانية والاجتماعية التي حلّت بالقطاع، وهي في طريقها لأن تحلّ بالضفة عموماً، وبالقدس تحديداً.
لا يشعر الشعب الفلسطيني بالضجر السياسي من الحكومات حتى يتمّ استبدالها لتخليصه من هذا الضجر، وإنّما بات يشعر بالضجر فعلاً من تبديل الحكومات من دون أن نعرف الفرق بين البديل وبين المستبدل، وخصوصاً فيما إذا كنّا سنكون أمام حكومة قادرة على الحُكم قبل أن تكون محكومة، وأن تكون محكومة فقط بالقدر الذي يسمح لها بالحُكم، وأن لا تكون مُسيّرة إلّا بالقدر الذي تكون فيه مُخيّرة قبل كلّ شيءٍ آخر.