في إسرائيل حكومة متطرّفة لم يسبق لمثلها أن كانت بمثل خصائصها من حيث كونها ذات سياسات اقتلاعيّة، عنصريّة فاشيّة، لا تتورّع عن ارتكاب أفظع الجرائم التي عرفتها البشرية بما في ذلك جريمة الإبادة الجماعية.
دشن تشكيل هذه الحكومة أزمة عميقة في المجتمع الإسرائيلي حين طرح رئيسها أفكاره بشأن "الانقلاب القضائي"، الأمر الذي شكّل محفّزاً قوياً، لإحداث انقسامات في كلّ طبقات المجتمع، وحيث اندلعت احتجاجات واسعة في مختلف أنحاء إسرائيل، وتخلّلتها إعلانات كثيرة عن استنكاف قطاعات واسعة من الجيش، خصوصاً الاحتياط عن الخدمة.
كانت الأزمة تهدّد بزجّ إسرائيل في حربٍ أهلية، حذّر منها الرئيس إسحاق هرتسوغ والعديد من الكتّاب والقادة الحاليّين والسّابقين. وكانت تداعياتها، تهدّد ادعاءات إسرائيل بكونها دولة ديمقراطية، أمام حلفائها "الغربيين".
الكلّ كان يعلم أن بنيامين نتنياهو أراد من وراء ذلك إنقاذ حياته السياسية المهدّدة بتهم الفساد، وأنّه في سبيل ذلك، كان قد أسلم قيادة التحالف للمتطرّفين في حكومته أمثال ايتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش.
حكومة نتنياهو صعّدت حرباً كانت الحكومات السّابقة قد شنّتها على الضفة الغربية والقدس، حيث ارتفعت معدّلات الاستيطان ومصادرة الأراضي، وتصاعدت حملات اقتحام المسجد الأقصى، فضلاً عن تصاعد الاقتحامات المتكرّرة على كلّ مدن وقرى وبلدات ونجوع الضفة.
الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في الضفة والقدس سبقت الحرب الجارية التي اندلعت يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل الماضي، وكان عنوانها حسم الصراع على كامل أرض فلسطين التاريخية بما في ذلك قطاع غزّة، الذي ما كان يرتاح من جرّاء عدوان إسرائيلي حتى يواجه عدواناً آخر.
رغم كلّ ذلك، يتوحّد الإسرائيليون جميعاً خلف هذه الحكومة المتطرّفة. قسم مهمّ من "المعارضة" اختار أن يكون شريكاً في "مجلس الحرب"، ويتوحّد مع نتنياهو بشأن أهدافها ومجرياتها، وقسم آخر يخالف جزئياً أهداف الحرب، من منطقٍ انتهازي، ولكنّه يتوحّد عملياً مع قادة الحرب.
ماذا لدينا نحن الفلسطينيين في مواجهة هذه الحرب الإجرامية، التي لا تستهدف غزّة وإن كانت الآن مركزها، وإنّما تستهدف بالأساس الضفة والقدس؟
قبل هذه الحكومة المتطرّفة وما جرّته من حروب، خاض الفلسطينيون حوارات متعدّدة، في عواصم كثيرة ووسطاء كثر، حتى يستعيدوا وحدتهم، وإصلاح نظامهم السياسي لكن كل تلك المحاولات ضاعت وسط حسابات سياسية وفئوية إلى أن يئسَ الشعب الفلسطيني من المحاولة، ولكن الوسطاء ظلُّوا يتلاعبون بهذا الملفّ لتبرير عجزهم، والتغطية على تخاذلهم إزاء ما تقوم به دولة الاحتلال.
يختلف الأمر منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل الماضي، عمّا كان قبله اختلافاً جذرياً بالنسبة لطرفي الصراع، وأصبح وجود الشعب الفلسطيني وقضيته على المحكّ.
مجريات الحرب، تسبّبت في كارثة إنسانية تكبّدها الشعب الفلسطيني في غزّة، دون التقليل من الكارثة التي يعاني منها أهلنا في الضفة. ولكن هذه حرب ضروس وليست جولة من جولات القتال التي شهدها الشعب الفلسطيني قبل الحرب الجارية، حيث يقاتل الإسرائيلي من أجل بقاء دولته لسنوات أكثر بينما يقاتل الفلسطيني من أجل صموده في الأرض، وتحريرها بعد أن عجزت كلّ قرارات الأمم المتحدة، وكل مبادرات السلام، والتدخّلات عن ثني إسرائيل عزمها شطب وجود الشعب الفلسطيني على أرضه وشطب قضيته.
خمسة أشهر من القتال الضاري، والآثار الإنسانية الكارثية التي يتكبّدها الشعب الفلسطيني من دون أن يتحرّك قطار الحوار الفلسطيني نحو استعادة وحدته على الأقلّ خلال الحرب إلى أن تتوقّف، وبما يساعد على توقّفها وإغلاق الثغرات التي يستغلها النظام العربي الرسمي من أجل تبرير تخاذله، والبعض مشاركته وتعاطفه مع المحتل الإسرائيلي.
من المؤسف أن السلطة الوطنية الفلسطينية خضعت لمتطلّبات تجديدها، تحت ضغط الولايات المتحدة وليس لمتطلّبات مجريات الحرب، وصمود المقاومة، والحاجة لتخفيف وطأة الكارثة الإنسانية، إن لم يكن وقف العدوان.
يستقيل أو يُقال رئيس الحكومة الدكتور محمد إشتية وحكومته، باعتبار أنّ ذلك، يشكّل استجابةً لمتطلبات "التجديد والإصلاح"، والحال أنّ شيئاً من هذا لن يتغيّر طالما أنّ المسألة لا تتعدّى تغيير الأشخاص والأسماء حتى لو كانت من شخصيات غير فصائلية.
ماذا ستفعل الحكومة الجديدة، غير الذي كانت ولا تزال تقوم به حكومة إشتية، هل ستنجح في توحيد صفوف الفلسطينيين في الضفة وغزّة، وهل ستتمكّن من تحمُّل المسؤولية عن إدارة أوضاعهما، بينما يتمّ إقصاء المقاومة، وبينما ترفض إسرائيل أيّ دور للسلطة في إدارة غزّة في "اليوم التالي" للحرب؟
هل ستتبدّل وظيفة الحكومة الجديدة، إزاء مواجهة الحرب الضروس التي يخوضها جيش الاحتلال ومستوطنوه في الضفة والقدس على أقلّ تقدير.
القضية الفلسطينية ملأت الدنيا، حتى أصبح العَلَم الفلسطيني الأكثر شهرة في العالم، وحيث استعادت القضية ألقها كما لم يحصل منذ عام 1948.
ثمة انتفاضة شعبية عالمية لصالح القضية الفلسطينية، التي أزاحت السردية الصهيونية، حتى باتت كلّ دول العالم بما في ذلك حلفاء وشركاء إسرائيل في الحرب، تتبنّى "رؤية الدولتين"، وبعضها يبحث في إمكانية الاعتراف بدولة فلسطين.
على من يرى بأنّ الإنجازات التي يحققها الشعب الفلسطيني وقضيته لا تستحقّ الثمن الذي يدفعه الفلسطينيون أن يعيد حساباته، وأن ينظر إلى المشهد بعقلٍ منفتح.
الأصل أن يبدأ الحوار فلسطينياً، وحتى من دون حاجة للوسطاء، وأن يضع على الطاولة، كلّ الشأن الفلسطيني ابتداءً من منظمة التحرير الفلسطينية، الدور، والمكانة، والتشكيل، إلى أصغر القضايا.
منظمة التحرير الفلسطينية هي مرجعية الشعب الفلسطيني وقراره، وهي قيادته وراسم استراتيجياته، ولذلك من هنا ينبغي أن يبدأ الحوار بمشاركة كافّة القوى ومن دون إقصاء لأيّ طرف، وإلّا فإنّ الحكومة القادمة ستظلّ تعمل استناداً إلى المرجعيات التي اشتغلت عليها حكومة إشتية.
على القائمين على الشأن الفلسطيني أن لا يتجاهلوا حكم التاريخ الذي لا يرحم. فالفلسطيني صامد رغم الألم، مقاوم شرس، نجح حتى الآن في إفشال مخطّطات الاحتلال وشركائه، والأمل كبير وواقعي في أن يُفشل ما تبقّى من أهداف ومخطّطات.