بعد فوز منافسه المرجح في الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة دونالد ترامب، فاز الرئيس جو بايدن بترشيح حزبه الديمقراطي، في ولاية ميتشغان، وذلك بنسبة اقتربت من 80%، وذلك رغم أن غريتشين ويتمير حاكم الولاية يعتبر لدى عدد من مسؤولي الحزب أحد الأسماء البديلة لبايدن، إذا ما قرر الحزب حتى منتصف آذار القادم، استبدال الرئيس كمرشح رئاسي للحزب، بسبب تقدمه في السن ولياقته الجسدية والعقلية، وذلك الفوز أبهج الرئيس لكنه في الوقت نفسه «شد أذنه» بالنظر إلى أن نحو 15% من مصوتي الحزب في ميتشغان، صوتوا «بغير ملتزم» وذلك احتجاجاً على سياسة إدارته المنحازة لحرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على قطاع غزة.
وفي الوقت الذي يبدو فيه أن الانتخابات الرئاسية الأميركية التي ستجري في تشرين ثاني القادم، ستكون تكراراً لتلك التي سبقتها قبل أربعة أعوام، وهذا أمر نادر في الانتخابات الرئاسية الأميركية، أي أن يتواجه نفس مرشحي الحزبين، أي كل من جو بايدن ودونالد ترامب، لكن مع عكس موقعيهما، ففي حين أن بايدن اليوم هو الرئيس، كان ترامب في الانتخابات السابقة هو الرئيس، ومع أن كليهما لا يواجهان منافسة جدية داخل حزبيهما، إلا أن التحدي الذي يواجهانه معاً، أو بشكل متشابه، هو الإقصاء لسببين مختلفين، فترامب قد يتم إقصاؤه قضائياً، في حين أن بايدن، قد يقدم حزبه على إبداله بمرشح آخر، ارتباطاً بتقدمه في السن.
المهم أن انتخابات الديمقراطيين في ميتشغان أكدت تنامي التغيير داخل أميركا، وبدرجة أوضح في الحزب الديمقراطي، فيما يخص علاقة أميركا بإسرائيل، وذلك بسبب حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على النظام العالمي أحادي القطب بزعامتها، وهو ما لحق به الضرر، خلال الشهور الماضية، بعد أن وجدت أميركا نفسها في حالة عزلة طوال فترة الحرب الإسرائيلية على غزة، خاصة مع مرور الوقت، واضطرار أميركا لاستخدام الفيتو مرتين _وحدها_ مقابل تصويت 13 دولة مع مشاريع قرارات وقف الحرب، وامتناع حليفتها الدائمة، أي بريطانيا عن التصويت، كذلك عزلة أميركا في الجمعية العامة، وفي أكثر من منظمة دولية، أهمها محكمة العدل الدولية في لاهاي، واضطرار أميركا للدخول في حرب مباشرة مع اليمن، فبعد كل هذا، بايدن بات بحاجة ماسة لوقف الحرب، من أجل أن يتمتع بتأييد الحزب الديمقراطي بشكل مطلق، ولهذا فقد وجد ضالته في صفقة التبادل الصعبة التي يجري التفاوض حولها هذه الأيام، وهذا ما يفسر لهفته بالقول عشية انتخابات ميتشغان، بأن مستشاره للأمن القومي، أخبره بأنه سيتم عقد الصفقة حتى الإثنين القادم!.
مشكلة بايدن أن حاجته الانتخابية لوقف الحرب الإسرائيلية على غزة، تتعاكس تماماً مع حاجة بنيامين نتنياهو لاستمرار تلك الحرب، وهذا السبب الذي كان وراء كل ما وقع بينهما من خلافات سابقة، حول مسار الحرب، وآخر تلك المسارات مرحلة الحرب على رفح، وأهمها، هو ما بعد الحرب، أو ما تم تداوله تحت مسمى اليوم التالي، حيث أن إدارة بايدن قالت بضرورة التقدم نحو حل الدولتين، وبرغم اتفاق واشنطن وتل أبيب على إخراج «حماس» من المسرح السياسي، إلا أن خلافاً معلناً بينهما تمثل في طموح نتنياهو وجوقة التطرف الفاشي، في استغلال الفرصة لإعادة احتلال قطاع غزة، فإن لم يكن مدنياً وعسكرياً، فعسكرياً على الأقل، فيما قالت واشنطن بتسليم غزة للسلطة الفلسطينية، بعد أن تلاشت اقتراحات عديدة بتسليم غزة لقوى إقليمية أو دولية، لكن واشنطن والتي قد يكون قولها اليوم غيره غداً، بحاجة حالياً لإطلاق معسول الكلام، لتسويغ سم الأفعال، ورغم أن نتنياهو نفسه يعلم جيداً بأن واشنطن غير قادرة على فرض إرادتها أو رغبتها عليه لاحقاً، وهي العاجزة اليوم عن إيصال المساعدات الإنسانية لشمال غزة، إلا أنه لم يقدم شيئاً يحتاجه بايدن في حملته الانتخابية، ربما لأنه فعلاً يفضل ترامب.
وقد اشترطت واشنطن في موقفها بإعادة السلطة إلى غزة، بتجديدها، أي تجديد السلطة، مع أنها ما زالت لا تقدم على أي أفعال تؤكد صدق نواياها، فواشنطن مثلاً، لم تُعِد فتحَ مكتب التمثيل الخاص بـ (م ت ف) على أرضها، ولم تنجح في فتح القنصلية في القدس، ولم تُعِد المنحة المالية، بل لم تمارس الضغط الكافي لإجبار الفاشي بتسلئيل سموتريتش، على رفع يده عن السطو على أموال مقاصة السلطة، ولم تتخذ فعلاً يفرض على إسرائيل والمستوطنين التوقف عن ممارسة الإرهاب وجرائم الحرب في الضفة الفلسطينية، وما زالت قراراتها خجولة في هذه الصدد، وهي كما وصفها مراقب إعلامي، تشبه من يقوم بإطفاء الحريق بكوب ماء، وفي الوقت نفسه يقوم بمد مشعل الحريق ببراميل الوقود.
ولأن الأمور عادة، ما تصل إلى دائرة المنتصف، خاصة في حروب غير حاسمة، كهذه التي نشهدها، رغم كل ما وقعته إسرائيل من قتل ودمار، بإلقاء أكثر من 80 ألف طن متفجرات، أو ما يعادل ثلاث قنابل نووية من مثل تلك التي ألقيت على هيروشيما ونغازاكي، لهذا فإن مفاوضات الصفقة تجري بضغط هائل من واشنطن وبجهود مضنية من قطر ومصر، وذلك لأكثر من سبب، أهمها، أن مواصلة الحرب تعني التقدم نحو رفح، وبدء الحرب على رفح، يعني ان تضطر واشنطن لاتخاذ موقف، إن لم يكن ضد إسرائيل فضد نتنياهو، لأن عكس ذلك قد يعني توسيع دائرة الحرب، لتصبح إقليمية/دولية، حيث ما زال بايدن يعتبر نجاحه في منع تحوّل الحرب لحرب إقليمية شاملة انتصاراً له، والحقيقة أنه رغم الجنون الذي أصاب نتنياهو وهو يعيش فصله السياسي الأخير، قد يسمح له بمواصلة الحرب بشن فصلها المخيف في رفح، إلا أن إقدامه على إرفاق مفاوضات الصفقة بالتهديدات، كان واضحاً بأنه بدافع تكتيكي تفاوضي.
صحيح أن «حماس» مرهقة، وقد ضاق الخناق عليها، بعد أن وصلت الحرب إلى تخوم رفح، لكن إسرائيل أيضاً مثقلة بحرب لم تشهد مثيلاً لها من حيث طول مدتها من قبل، وجيشها بات منهكاً، واقتصادها كذلك، خاصة مع التوتر في باب المندب، والأهم من كل ذلك والأكثر وضوحاً، هو وصول العالَم بأسره إلى حالة بات فيها يواجه إسرائيل شعبياً بالتظاهرات، وقضائياً بالمحاكم الدولية، وقد ظهر ذلك في حجم التحذير الدولي لإسرائيل من اقتحام رفح، وهي المكتظة بالنازحين.
من الواضح إذاً أن إقدام إسرائيل على شن الحرب على رفح، خاصة في رمضان، أمر غير مرجح، وأن الأميركيين يحاولون إقناع «حماس» بأن يتبع وقف النار المؤقت وقف دائم، مع الترتيبات السياسية، التي بدأ التحضير لها فعلياً، ويوآف غالانت حاول أن يقنع نفسه قبل أيام بأن موافقة إسرائيل على الصفقة تأتي لتفويت الفرصة على «حماس» وإيران بالانتقال لما سماه المرحلة الثانية من طوفان الأقصى، أي فتح كل الجبهات في رمضان، وهكذا تمضي الأمور ببطء يرافقه خفض منسوب الحرب، مع تصاعد التحركات السياسية، وأهم تلك التحركات، إقدام حكومة د.محمد اشتية الفتحاوية على الاستقالة قبل أيام من لقاء ممثلي الفصائل في موسكو.
وإقدام السلطة على خطوة استقالة الحكومة، يهدف إلى دخول السلطة مسار ما بعد الحرب بنفسها، بدل أن تنتظر أن يُدخلها إليه الآخرون بشروطهم، أما موسكو فهي تحاول تحقيق الوحدة الفلسطينية في إطار (م ت ف) وكلا الأمرين، كانا وما زالا مطلبين داخليين فلسطينيين، يحققان إنهاء الانقسام، أولاً، وثانياً تفعيل (م ت ف) وتجديد السلطة، بتجديد الشرعيات عبر الانتخابات، هكذا لو سارت الأمور على هذا النحو، فإن فلسطين تكون قد عوضت دماء الشهداء والدمار والمعاناة، بذهابها الأكيد نحو الحرية والاستقلال، لكن كل هذا يعتبر جزءاً من الحرب، التي ستشهد بعد تراجع فصلها الدامي، أي المواجهة العسكرية، بما شهدته من صمود فلسطيني أسطوري، في غزة والضفة معاً، ستشهد فصل مواجهة سياسية حامية، مع وجود اليمين الإسرائيلي المتطرف، والذي لا بد من إخراجه من المسرح السياسي، ربما عبر ورقة التطبيع مع السعودية، بإجراء انتخابات إسرائيلية ما بين أيار وأيلول القادمين، كما توقع اليميني زعيم حزب «إسرائيل بيتنا»، افيغدور ليبرمان.