هذا المقال ليس سوى فكرة تتمثل في خلق حوار بين الأب المفكر والابن الساخر، حوار قمت بتجميعه من نصوص نَشره كلٌ منهما على حدة. لم أقم بتغيير أو إضافة أو تعديل على النصوص الخاصة بهم، وإنما قمت بإدخال النصوص على شكل حوار بينهما. قبل البدء اسمحوا أن أعرفكم على أبطال المقال:
ــــ العم العزيز غازي جمال حسين الصوراني "أبو جمال" وهو مفكر وباحث فلسطيني، العمر 78 عاما، له العديد من الإصدارات والأبحاث.
ــــ الأخ والصديق العزيز أكرم غازي جمال حسين الصوراني، درس الحقوق وهو كاتب ساخر، العمر 42 عاما.
الأب والابن متواجدان حتى إعداد هذا النص في فلسطين: غزّة، خان يونس، رفح، الخيمة، المجهول!
غازي: غزة نتيجة للقصف الهمجي الذي أدى إلى استشهاد أكثر من ثلاثين ألفا وجرح ما يزيد على سبعين ألفاً ودمار اكثر من 60% من بيوتها ومدارسها ومستشفياتها أصبحت مقبرة موحشة بلا قبور.. لا مياه ولا كهرباء ولا مستشفيات ولا مأوى يحمي من المطر والبرد.. لكننا صامدون.. إلا أننا لا نعرف هل سنعيش أو نموت، اليوم أو غداً.
أكرم: من الحرب فصاعداً يبدو كل شيء أكثر سخافة! تفكيرك بلون قميصك ومدى مطابقته للون بنطلونك، حرصك غير المبرر على المبالغة في تلميع جزمتك، سلسلة مفاتيحك، سلسلة همومك، عصبيتك، التفكير برائحة جرابينك، وتذكُّرَك أن الفردة اليسار (مخزوقة) بعد أن طلب منك صديقك ضرورة خلع الحذاء على الباب حفاظاً على سمعة البيت! إصابة الغسّالة بسكتة قلبيّة في الحوض، وإصابة الثلاجة بجلطة دماغية في الماتور، وحتى إصابتك بطعنة إنفلونزا غادرة!
غازي: وصلت الثامنة والسبعين من العمر.. ووصلت الخيمة في مواصي رفح، بعد رحلة نزوح مُضنية لم أكن أتخيلها في أسوأ كوابيس حياتي، استيقظت فجر 13 أكتوبر 2023 على النبأ الكابوس، كنت وزوجتي شريكة عمري أم جمال والأولاد والأحفاد، كما الآلاف من أبناء شعبنا مضطرين تحت القصف وتهديدات سرعة الإخلاء إلى النزوح نحو الجنوب! تركنا البيت في لحظات إرباك، ورعب، وذهول، وصمت، وصوت قصف يكسر ذهولنا، ويكسر الظهر، والقلب!
أكرم: من الحرب فصاعداً يبدو كل شيء أكثر سخافة! محاولتك الاستحمام والتحضيرات اللوجستية لحظة الدخول للاستحمام وما يرافقها من استخدام المنشفة على اليمين وعلى اليسار وأسفل الصرّة وفجأة تكتشف "إنّو الوجبة البيضا (لسّه في الغسيل)"، حينها تدرك معنى "دخول الحمّام مش زي خروجه"! قيام أحد أبنائك بكسر الريموت كونترول وإتلاف جهاز اللاب توب خاصتك، وفقدان ملفات مهمة كنت نسيت تخزينها في فلاشة سعة 16 جيجا، وبعد فوات الأوان تكتشف أن ثمّة شيئا لم يكن مهم التركيز معه أكثر من اللازم حتى "طوشة الفقر" ومصروف آخر الشّهر!
غازي: وصلت الثامنة والسبعين .. ووصلت خان يونس، وصلت رفح، ثم وصلنا الخيمة التي كتب عنها غسان كنفاني "خيمة عن خيمة بتفرق"! وبعد سني العمر التي فيها ناضلت، وحلمت كما كل أبناء جيلي بفلسطين حرة عربية مستقلة، أقول "خيبة عن خيبة بتفرق"! ما يحدث معنا، اليوم، في قطاع غزّة يتعدى حدود الخيبة وحدود النكسة، هي نكبة ثانية، ثلاثية الأبعاد، بكل الأبعاد، السياسية والوطنية والاقتصادية والمعيشية، نكبة أشد وأقسى من نكبة 1948، تغريبة فلسطينية جديدة غريبة الملامح والأطوار، من كثافة النيران وهول القصف والدمار والموت في أي لحظة حتى فحش وغلاء الأسعار!
أكرم: من الحرب فصاعداً سيبدو كل شيء أكثر سخافة! حتى تلك الليلة التي كانت "زي قاع الكيلة" عندما كُنتَ مُضطراً فيها لبيع مصاغ زوجتك من أجل شراء كماليات "ضرورية" عن "كزب" .. وعندما فجأة تشم رائحة غريبة وتتذكر الفرن وأن الطبيخ قد احترق ويحترق معه قلبك على الكيلو كفتة سادة الذي تنتظره من الشهر للشهر.. ويحترق على الكنب والسجادة بعد اندلاع القهوة فيها وتتظاهر أمام ضيفك "أبو دم تقيل الذي غالباً لا تحبه إنّو (عادي) وتزيد في منسوب الكزب وتقول إنو (كبها خير)!".
غازي: وصلت الثامنة والسبعين وكانت لا تستوقفني عبارة كل عام وأنت بخير، الآن تستوقفني كثيراً، فهنا في غزّة في كل دقيقة نحن نجتهد في البحث عن الخير، وعن الأمان وعن الاطمئنان على بعضنا في ذات المكان وسط بقعة من الدم يأكل فيها الناس كل شيء عدا الأكل، يطبخون كل شيء عدا الطبيخ، هنا من السخف أن يسألك صديق عن حالك لأن من السخف أن تقول له أنك بخير، ليس لأننا لسنا بخير، بل لأننا فقط ما زلنا أحياء! في عالم مزيف، لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم عن مجاعة يجوع فيها الجوع، وحرب طاحنة على الأرض وعلى الطحين، وبذخ وإسراف في الموت! وصلت بعد ثمانية وسبعين عاماً من العمر، وما زالت أحلامي وآمالي بَعد لم تصل .. لكنني مقتنع بقوة أن الآمال الكبيرة تولد من قلب الآلام العظيمة.
ملاحظة: لم ينته الحوار، وللقصة بقية لم تكتب بعد، لا يتسع حيز هذا المقال "خرم إبرة" لها.