صحيح أن الحرب العدوانية المستمرة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة لم تنجح حتى اللحظة في تحقيق أيٍ من أهدافها العسكرية المعلنة، ولكن دون أدنى شك فقد نجحت في اختراق موسوعة جينيس في معدلات قتل الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين الأبرياء ، وتدمير كل مقومات وعناصر الحياة الضرورية لمجرد القدرة على البقاء. وهي بهذا استحقت بجدارة أن تُسمى حرب الابادة والتطهير العرقي . فأن تستمر حالة المقاومة في مختلف مناطق القطاع وليس فقط من جنوبه، ذلك يعني أن ما تروجه اسرائيل حول قدرتها على اجتثاث المقاومة، وأنها فقط بحاجة للوقت لتحقيق ذلك، ليس اكثر من وهم، وربما أن نتانياهو ومجلس حربه أكثر من يدركون هذه الحقيقة المرّة على مستقبلهم .
لاشك أن حرب الابادة التي اتسمت بالرغبة الانتقامية استهدفت تقويض الحاضنة الشعبية للمقاومة، وعلينا أن ندرك أن قدرة الناس على الاحتمال هي قدرات متفاوتة، وبهذا المعني، فإنها قد ألحقت ضرراً مهما كان ذلك محدوداً، في مدى استمرار التفاف الناس حول المقاومة، ولكن ما يجب ادراكه هو أن الهدف الجوهري لهذه الحرب هو تصفية الوجود الفلسطيني في قطاع غزة، تمهيداً لتصفيته في سائر أرجاء الضفة الغربية، بما فيها القدس، و ربما يشمل في مرحلة لاحقة شعبنا داخل 48 .فحرب الابادة والتصفية تسير على سكتين متزامنتين هما الابادة الجماعية في القطاع والضم المتسارع في الضفة الغربية، وكلاهما يهدف لاقتلاع شعبنا وتهجيره من أرض وطنه.
في هذا السياق يمكن فهم حرب التجويع التي تهدف لإنهاك الحاضنة الشعبية للمقاومة ودفع الناس للخلاص الفردي بحثاً عن لقمة الخبز، وهو ما يفسر المشاهد المأساوية التي صممتها حكومة الحرب بعناية من خلال القتل الجماعي للباحثين عن الدقيق أو الخبز، أو الراكضين خلف مظلات إلقاء وجبات التضليل بادعاء محاولة اغاثة الجوعى من الأطفال والنساء . فكلها مشاهد صممها خبراء الحرب النفسية، والتي تستهدف تفتيت الشعور الجماعي ومتطلبات مواجهته، كما تهدف إلى تضليل الرأي العام المتنامي في مناهضة الحرب وإلحاق الأذي المعنوي العميق بروح التضامن الجمعي الذي ميز الفلسطينيون منذ النكبة وما قبلها، بإظهار وترويج مشاهد البحث عن الخلاصات الفردية لهذا النسيج الذي طالما كان متماسكاً، و أظهر وما يزال قدرة كبيرة على الصمود . فإدارة بايدن المنخرطة في الحرب بكل أبعادها تسعى لتضليل واحتواء مناهضي الحرب في المدن الأمريكية وعواصم العالم، بالتباكي على الأزمة الإنسانية الكارثية التي تخلفها حربهم القذرة، في وقت أنها الدولة الوحيدة القادرة على،ليس فقط مجرد وقف الكارثة، بل، وانهاء الحرب فوراً لو أرادت ذلك .
الأمر الذي يحتاج لوقفات جدية هو طبيعة العجز العربي، و حالة الانتظارية و الصمت الملازمتين لموقف القيادة المتنفذة والمهيمنة على القرار الفلسطيني.
ففي وقت تسعى فيه الادارة الأميريكية لانشاء ممر وميناء بحري مؤقت للتغطية على شراكتها في الحرب، فهي تدرك أن ذلك يحتاج لأسابيع وربما أشهر، بما يعني أن الحرب مستمرة وستطول، هذا في وقت أن آلاف الشاحنات المحملة بالمواد الاغاثية تنتظر عند بوابة معبر رفح منذ أشهر لتسد رمق المكلومين المتضورين جوعاً داخل القطاع . فهل تريد واشنطن اقناعنا بأنها عاجزة عن إلزام إسرائيل بإدخال هذا الشاحنات المتراكمة داخل معبر رفح، بينما ستكون قادرة على إلزامها بذلك عبر ميناء لم يُنشأ بعد ؟ و هل تريد واشنطن التي أعلن رئيسها أنه طلب من الرئيس السيسي فتح المعبر، بأن كليهما لم يستطع مواجهة الرفض الاسرائيلي على تنفيذ ذلك ؟ أم أن هناك من النفاق ما يتسع لحجم الجريمة التي تُخَطط لمستقبل شعبنا في القطاع والمستقبل الفلسطيني برمته ؟
المقاومة تواجه مخططات الاحتلال في الميدان، وهي كذلك تفاوضه وحيدة دون أي غطاء سياسي فلسطيني رسمي، وهذه مفارقة غير مسبوقة ، بينما جريمة التجويع مستمرة ومعها مخططات التهجير دون أي فعل رسمي يتجاوز الوصف والإدانة الخجولة والمكررة، وكأن ما يواجهه أهلنا في القطاع يخص شعباً حتى غير شقيقٍ ، أو أن جريمة الابادة الجماعية فيه معزولة عن مخططات ضم الضفة والتصفية المتواصلة للحقوق والقضية الفلسطينية برمتها . كيف يمكن للمقاومة دون اسناد وطني ورسمي للمطالب الوطنية العادلة التي تقدمها أن تكون قادرة على التفاوض من أجل وقف العدوان و إطلاق النار والانسحاب من القطاع واعادة النازحين إلى بيوتهم وادخال كل مواد الاغاثة المتكدسة، وهي ذاتها المطلوب تصفيتها في هذه الحرب ،بغض النظر عن مدى قدرة اسرائيل على تحقيق ذلك أم لا ؟ ولماذا تتردد القيادة المتنفذة في الذهاب لحكومة وفاق وطني في اطار مرجعية وطنية تمثلها منظمة التحرير الفلسطينية التي تضم الجميع، الأمر الذي يحظى باجماع شعبي و وطني وفصائلي ؟!فمثل هذا الموقف سيبقي الحالة الفلسطينية حبيسة نظام الانقسام الذي شكل وما زال يشكل رافعة مشروع نتانياهو لتصفية القضية الفلسطينية ؟ في وقت أن الانجاز الوحيد الذي يُمكن أن نخرج به من هذه الحرب العدوانية وصمود شعبنا في مواجهتها، هو استعادة الكيانية الموحدة ومؤسساتها الوطنية الجامعة القادرة على استثمار التحولات الكونية، وتحويلها إلى مواقف وسياسات لعزل الاحتلال، وتمهيد الطريق للخلاص الوطني و دحر المحتلين واستعادة حقوق شعبنا الوطنية كافة؟ إن الإجابة الشافية على هذه الأسئلة وغيرها هي برسم كل الوطنيين الفلسطينيين كي لا تدهب تضحيات شعبنا هدراً، وكي لا تصبح هذه الحرب استكمالاً لنكبة عام 1948.