الخلاف بين إدارة الرئيس بايدن مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو وتوجهاته إن كان في غزة او الضفة الغربية يعطي للوهلة الاولى وكأن الرؤيا الأمريكية لا تتوافق مع توجهات المنظومة الحاكمة ككل في إسرائيل، والتي يحكمها الآن عقلية أمنية تسيطر على نظرتها لكل الساحات والجبهات ومدعومة بشكل كبير من الشارع الإسرائيلي والذي هزته عملية السابع من أكتوبر لدرجة أنه اصبح لا يميز بين الخطر التكتيكي والمتطلبات الإستراتيجية التي يتم تجاوزها وتجاهلها، مما سيؤدي لتحولها لاحقا الى واقع دائم سيعاني منه الإسرائيلي بشكل يومي وبطريقة تدفعه لتغيير نظرته الضبابية بسبب شعوره بعدم الامن والإستقرار.
واضح أن الرؤية الأمنية إن كان للقيادة السياسية الإسرائيلية التي إرتبطت عقليتها بمخططات وبمآرب نتنياهو الشخصية والأيديولوجية تلتقي بشكل كبير مع رؤيا مؤسسة الجيش والأمن من حيث التالي:
أولا- إنهاء اي نوع من انواع التهديد الأمني على مختلف الجبهات، في غزة والضفة وجنوب لبنان، وهذه متطلبات عاجلة وضرورة حتمية.
ثانيا- محاولة تحقيق الامن وإعادته لعقلية الشارع الإسرائيلي بما يؤدي لتخفيف حدة المحاسبة القادمة لكل هذه القيادات السياسية والعسكرية بسبب إخفاق السابع من أكتوبر، وبما يؤدي لإيصال الرأي العام الإسرائيلي بأن إمكانية حدوث عملية كما السابع من اكتوبر هي صفر.
ثالثا- منع قيام دولة فلسطينية والسيطرة بشكل كامل على غزة والضفة عبر وكيل فلسطيني مع بقاء الجغرافيا في المنطقتين ساحات مفتوحة للامن والجيش الإسرائيلي وفقا لنموذج الضفة، وبشكل لا يؤدي لربط الضفة وغزة سياسيا وقانونيا من جديد.
رابعا- إعادة صياغة نظرية الردع الإسرائيلية من خلال القيام بعملية "كي وعي" جديد يشمل المنطقة ككل وليس فقط الفلسطيني، اساسه الإبادة والتدمير الشامل والمجاعة وبأن إسرائيل دولة محمية دوليا ولا يمكن إيقافها او إدانتها كبقية الدول الأخرى.
تلك المقاربات تؤكد أن الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية لن يسمحوا بتحويل صنيعتهم في المنطقة لدولة مجرمة ويجب محاسبتها، فدولة اليهود يمكن نقدها والخلاف معها ولكن ممنوع إدانتها بشكل يؤثر على وجودها في المنطقة ككل، لذلك نرى الخلاف يتركز بين ادارة البيت الأبيض ونتنياهو وليس مع دولة إسرائيل.
لكني هنا اود أن أشير إلى أن هذا الخلاف ليس سوى محاولة أمريكية لحرف الأنظار عن مسؤوليتها عما جرى ويجري في قطاع غزة وتحميل المسؤولية للإدارة السيئة للحملة الأمريكية-الإسرائيلية على قطاع غزة لرئيس وزراء إسرائيل نتنياهو، اي جعله كبش فداء لتلك السياسات التي نتيجتها ليس فقط كارثة إنسانية وإبادة فحسب، وإنما نهاية حقيقية لكل منظومة النظام الدولي إن كان في عدم قدرة مجلس الأمن على القيام بواجبه في الامن والسلم العالمي بسبب "الفيتو الامريكي" ام بسبب تجاوز التجاوز للقانون الإنساني الدولي، بحيث أن ما أصبح يحدث في غزة نموذج لعالم جديد بلا قواعد ولا قانون ولا ضوابط، عالم يعتمد شريعة الغاب، عالم يسمح بقتل الأطفال والنساء وتدمير سبل الحياة وتجويع الناس وتحت يافطة الفيتو الأمريكي.
نعم، الخلافات الامريكية مع نتنياهو حقيقية ولكنها ليست على الأهداف، وإنما على الوسائل، والخطوط الحمر والذي يراه كل طرف برؤيا مختلفة، فالأمريكي يرى أن العملية في غزة إنتهت وجاء دور العمل السياسي والدبلوماسي وبما يحقق مصالح إسرائيل وأمريكا الإستراتيجية في المنطقة ككل وليس فقط في الموضوع الفلسطيني، في حين الخط الأحمر لدى نتنياهو هو الإستمرار في المعركة حتى سحق حماس وتحقيق النصر المطلق، وهنا يقصد نتنياهو حتى إبادة كل الشعب الفلسطيني في قطاع غزة او تهجيرهم بطرق متعددة، لأن الحرب بالنسبة إلى نتنياهو يجب ان تستمر ليتم إحتلال كل قطاع غزة وعمل محور "فيلادلفيا" جديد في الارض الفلسطينية في رفح، وإغلاق معبر رفح من الجانب الفلسطيني وبحجة تدمير ما تبقى من كتائب للقسام، وهو بذلك يريد تحويل غزة لمنطقتين، جنوب غزة وشمال غزة، والعمل على ايجاد إدارات محلية في كل منها وبما يضمن ان تسيطر إسرائيل أمنيا وبدء العمل على ما يسمى تنظيف جيوب المقاومة في الجيبين الغزاويين.
مما يحدث على أرض الواقع في غزة يتضح ان خطة نتنياهو والمنظومة الأمنية هو إستمرار الإحتلال لكل القطاع لسنوات، وهذا ما يتم العمل عليه من خلال:
أولا- شق الشارع من مستوطنة بئيري وحتى شاطيء البحر الأبيض المتوسط وبما يؤدي لتحويل قطاع غزة إلى جيبين، شمالي وجنوبي.
ثانيا- اجتياح مدينة رفح لإقامة محور فلادلفيا جديد في الارض الفلسطينية موازي للمحور الحالي الذي تسيطر عليه مصر وفق الإتفاق بين الطرفين، وايضا إغلاق معبر رفح الفلسطيني، بهدف فتح معبر تسيطر عليه إسرائيل كما "جسر اللنبي" في الضفة.
ثالثا- تخفيف عدد السكان في الجيب الشمالي وايجاد كتلة سكانية وفق مفاهيم أمنية إسرائيلية ومن خلال عملية فرز ومعايير خاصة ويبدو انها ستستند لمعلومات من جهة، ومن جهة اخرى إبعاد أكبر عدد من الكتلة السكانية اللاجئة "الذين أصولهم من عام 1948" عن الجيب الشمالي.
رابعا- الإنتهاء من بناء المنطقة العازلة التي تحيط بقطاع غزة من الشرق والشمال والتي ستكون بعمق واحد كيلو إلى واحد ونصف، وبما يؤدي لإقتطاع اكثر من 40 كيلو متر مربع من مساحة القطاع، واذا ما اضفنا مساحة الشارع الذي تم شقه ومساحة ما يفكرون بإقتطاعة من مدينة رفح فهذا يعني زيادة حجم الإقتطاع ليصل إلى اكثر من 60 كيلو متر مربع.
سابقا قلنا، ومنذ بداية حملة الإبادة أن الخطة الإسرائيلية تكمن في القيام بما أسميته الإنزياح الديمغرافي والإنزياح الجغرافي، وهذا ما تقوم فيه إسرائيل على ارض الواقع، وهذا ما يؤسس لإحتلال عميق ستؤدي بالضرورة الى حرب إستنزاف طويلة ومريرة وصعبة، مما سيؤجل اي إعمار ويؤجل منع تفاقم الكارثة الإنسانية إذا لم يتم وضع حد من قبل المجتمع الدولي لتلك الخطط الإسرائيلية.
يقول الجنرال المتقاعد السابق في وزارة الجيش يسرائيل زيف "حماس قرأت الواقع وعملت على خوض هذه الحرب بتصور إستراتيجي أي نحو مفهوم حرب العصابات ولم تعد تبحث عن اي نصر في الصدام المباشر، بعكس إسرائيل التي لا تملك تصور إستراتيجي وغرقت في إعتبارات تكتيكية، وتتصرف وكأنها تمتلك كل الوقت دون الإستشعار بعوامل التأثير الاخرى بسبب الزمن"، وهذا هو الذي يخوف الامريكي لأن الإستمرار في حرب بطريقة الإستنزاف سوف يستنزفها عسكريا وسياسيا وأخلاقيا ويؤثر على مصالحها الحيوية، قبل التأثير المباشر على إسرائيل نفسها.
إسرائيل بعقلية نتنياهو الثأرية الخالية من أي رؤيا سياسية إستراتيجية تتوافق مع الولايات المتحدة والإقليم، ستؤدي حتما لأن تجعل دولة إسرائيل كما قال الجنرال زيف "تجرجر اقدامها لا يحدوها هدف واضح"، لكن الحقيقة للفلسطيني واضحة لأن ما يريده نتنياهو هو إعادة إحتلال الأرض الفلسطينية كاملة وإعادة الامور لما قبل إتفاق "أوسلو"، وهذا بالطبع رهان خاسر ويستند لنظرة ايديولوجية وشخصية تحكم عقلية نتنياهو وإئتلافه الحاكم لأنه يتناقض كاملة ليس فقط مع النظرة الامريكية والأوروبية فحسب وإنما مع الإقليم، أي أن ذلك سيؤدي حتما لإنتهاء كل ما تم إنجازه من إتفاقات تطبيعية مع إسرائيل او بالحد الأدنى سيؤي لتجميدها وإنهاء إمكانية التطبيع مع المملكة العربية السعودية.
حقيقة نظرة نتنياهو ومن معه ليست سوى وصفة لتفجير صراع إقليمي واسع النطاق وهو اصبح قاب قوسين أو أدنى، لأن محور المقاومة اصبح على قناعة تامة أن المواجهة لا بد منها وأن الحرب الشاملة اصبحت اكثر من قريبة، وغزة التي عانت كثيرا ولا تزال سوف يشفى غليلها عندما يفشل نتنياهو ورفاقه المتطرفين في تعنتهم وإصرارهم على تحقيق نصر عبر تكتيكات تخدمهم شخصيا وسياسيا ولكنها ستؤدي لفشل ذريع إستراتيجي سيؤدي حتما ليس فقط إلى نهايتهم بطريقة غير مسبوقة على المستوى الشخصي، وإنما لإنتهاء الدور المركزي لدولة نتنياهو في المنطقة ودفن حلم إسرائيل الكبرى إلى الأبد وإنتهاء الإحتلال الى غير رجعة.
يقول الإمام علي بن ابي طالب كرم الله وجهه "كونوا على يقين أن هناك شيئا ينتظركم بعد الصبر، ليبهركم فينسيكم مرارة الألم"
صدق الإمام فغرور القوة التي يستند إليها نتنياهو في تعنته ستؤدي لألم كبير يجتاحه قبل غيره، لأن واقع المنطق يؤدي لأن يحطم الغرور صاحبه والواقع في الميدان قبل السياسة لا يحتمل ذاك التعنت والعناد
وبين رؤيا الرئيس بايدن لتعزيز فرصه في الفوز مرة ثانية في الإنتخابات وغرور نتنياهو يكمن الخلاف، خلاف بحد ذاته أقرب للشخصي منه لاي مقاربة أخرى، فطموحات بايدن الصهيوني الشخصية لفترة ثانية في البيت الأبيض تتعارض مع مفهوم البقاء لرئيس وزراء يعيش حالة من الريبة من السقوط ومرض فوبيا غرور القوة الشخصية والثقة بالزوجة سارة والإبن والأب