بدلاً من الهدنة يبدو أنّ الأمور ذاهبة باتجاه تصعيد كبير، وتوسيع الحرب حتى خلال شهر رمضان، الذي راهن الكلّ بأنّه سيكون شهر الصفقة وعقد اجتماعات ومشاورات إقليمية ودولية لتحويلها إلى مدخلٍ ممكن لإنهاء الحرب أو لوقفٍ دائم لإطلاق النار.
التصعيد هذه المرّة يبدو متبادلاً من قبل "حزب الله"، ومن قبل إسرائيل. بل ويمكن القول: إنّ إطلاق عشرات الصواريخ تم باتجاه مواقع عسكرية حسّاسة جدّاً على ما يبدو، حتى وصل الأمر بطلبات إسرائيلية جديدة ومتجدّدة لتوجيه ضربات كبيرة لـ"حزب الله" وصولاً إلى ضرب مرافق حيوية في لبنان، وفي العاصمة بيروت تحديداً.
معروف أنّ القوّة الصاروخية لـ"حزب الله" ضخمة جدّاً، وقد تلحق بإسرائيل خسائر فادحة، وعلى الأغلب فإنّ دولة الاحتلال لا تعرف بالضبط حجم التدمير الذي يمكن أن تتعرّض له، وليست لديها فكرة ثابتة عن قدرة "القبّة الحديدية" على اعتراض بعض أنواع الصواريخ التي يمتلكها الحزب، خاصة تلك التي تسمّى الصواريخ الدقيقة.
هناك بعض التقديرات التي تقول، إنّ الحزب لم يستخدم بعد أيّ صاروخ من هذه الصواريخ، وهناك تقديرات أنه لن يكشف عن "قوّة" وأسرار هذه الصواريخ لكامل مرحلة ما يسمّيها "مرحلة الإسناد".
بل وهناك من المحلّلين من يرى أنّ الحزب بعد أن "فقد" عنصر المباغتة بعد "طوفان الأقصى"، ستكون مفاجآته الحقيقية بالضبط في نوعية الصواريخ التي سيستخدمها، وفي طبيعة الأهداف التي يمكن لهذه الصواريخ أن تدمّرها.
حتى الآن هناك مؤشّرات متناقضة.
فمن ناحيةٍ يتمّ التصعيد، ولكنه لا يصل إلى درجة الانفجار الكبير، ومن ناحيةٍ أخرى تشعر إسرائيل أنّها تعيش على دقّات ساعة موقوتة للانفجار.
القصف الإسرائيلي يتوسّع، ولكنّه ما زال "ملتزماً" بحدود معيّنة من التصعيد، والمطالبات الداخلية، حتى وإن كانت للتهويل والتهويش والشعور بالخذلان من أدوار جيش الاحتلال، إلّا أنّها في الواقع تتحدّث وتدعو للإبادة والتدمير والتصفية، كما لا تستبعد أبداً أن يتمّ اجتياح برّي لكامل منطقة جنوب الليطاني، بهدف إجبار قوات "حزب الله" على التموضع شماله بعيداً عن التهديد المباشر للشريط الحدودي مع لبنان.
في الأيام الأخيرة بالذات هناك إضافة إلى التهديدات والتهويشات جملة جديدة من "الاحتياطات" و"الإجراءات" الجديدة، التي عادةً لا يتمّ اللجوء إليها إلّا في حالة قرب خطر داهم وقادم.
يتعلّق الأمر بإجراءات بوشر باتخاذها مثل تأمين ملاذات وملاجئ لعشرات آلاف السكّان في منطقتَي حيفا وتل أبيب.
وهناك أحاديث عن قطار سيتم استحداثه من أجل أن يكون بمثابة قطار إسعاف ونقل القتلى والجرحى إلى "منطقة الوسط"، وعلى ما يبدو فإنّ هناك مؤشّرات أخرى كبيرة غير معلنة على وجود إجراءات سرّية أخرى، وعلى تحوّطات غير مسبوقة منذ بداية الحرب وحتى الآن.
بالمقابل، هناك أنباء عن انتهاء الأمل بإحياء المفاوضات حول الملف النووي الإيراني، وهناك معلومات تقول: إن إيران طلبت من "حزب الله" سحب كلّ قوّاته من سورية وحشدها في الجنوب اللبناني، بل وهناك معلومات أخرى أنّ سورية نفسها باتت تُلحّ على روسيا بتسليم منظومة "S300" في أسرع وقتٍ ممكن.
المعلومات التي يتمّ تداولها خطيرة للغاية، ومنها نشر عشرات بطّاريات الصواريخ الجديدة على طول الحدود اللبنانية مع دولة الاحتلال من قبل "حزب الله"، والمعلومات عن سحب قوات الأخير إلى جنوب لبنان تقابلها معلومات عن حشد فرقة إسرائيلية في الجولان، وعن حشد وحدات قتالية إيرانية مقابل هذه الفرقة.
المؤشّر الذي لا يقلّ خطورة عن كلّ هذه المعلومات والإجراءات هو أنّ الولايات المتحدة سحبت أكثر من 63 قطعة بحرية من بحر الصين، وهناك بوارج وحاملات طائرات يبدو أن وُجهتها ستكون بحر العرب والسواحل العمانية.
إذا لم يكن هناك من توسيعٍ للحرب، فإنّ من المؤكّد أنّ الولايات المتحدة لم تعد مطمئنّة إلى عدم الوصول إلى هذا التوسيع في أيّ وقتٍ، وهي لم تعد على ما يبدو واثقة من أنّ التوسيع يمكن أن يقف عند حدود معيّنة، وهو الأمر الذي يشي بأنّ الحرب الإقليمية لم تعد مستبعدة كما كانت مستبعدة حتى الآن، أو كما كانت تراهن الولايات المتحدة على إبقائها في الحدود المسيطر عليها، والقابلة للتعايش معها.
كتبنا أكثر من مرّة أنّ إسرائيل تشعر بأنّها مردوعة بالعلاقة مع التصعيد الذي يُقدم عليه "حزب الله"، بل إنّ إسرائيل تعرف حق المعرفة أنّها لن تحقّق نصراً حاسماً في قطاع غزّة، دون أن تمرّ بالحرب على جبهة جنوب لبنان، والحرب على جبهة الجنوب اللبناني لا يشكّل القصف الجوّي فيها حلّاً لأيّ مشكلة أمنية أو عسكرية، واللجوء إلى الإبادة والتدمير سيواجه بتدمير مضاد لا يدرك أبعاده بعض هواة السياسة والصحافة في إسرائيل.
أمّا إذا "اقتضت" الضرورة الدخول في حربٍ برّية في جنوب لبنان، فإنّ القوات المطلوبة لاحتلال الجنوب - "وهو أمر ممكن من الناحية الفنّية" - يجب أن تكون أضعاف أضعاف القوات التي تمّ استخدامها ضد القطاع، وإذا كانت غزّة قد استطاعت أن تصمد كلّ هذا الوقت، فإنّ جنوب لبنان يمتلك كلّ المقوّمات التي تؤهّله لصمودٍ أكبر وأطول وأكثر فعالية في مقارعة قوّات جيش الاحتلال إذا حصلت الحرب البرّية.
هذا كلّه إذا استثنينا بالكامل دور بعض القوى من "محور المقاومة"، وإذا استثنينا إمكانية دخول وحدات قتالية خاصة من نخبة الجيش السوري في مثل هذا القتال.
أمّا إذا توسّعت الأمور وشملت تدخل إيران في ضوء أيّ محاولات أميركية أو إسرائيلية لضرب مرافقها العسكرية، أو مفاعلاتها النووية، فإنّ الأمر غير قابلٍ لا للتوقّع، ولا للتصوّر، وليس بمقدور أحد أن يحدّد أيّ معايير للربح والخسارة، ولا أيّ حسابات للتبعات السياسية، والجيواستراتيجية لكامل منطقة الإقليم.
وطبعاً ليس بمقدور أحد منذ الآن أن يتصوّر خارطة التفاعل الدولي مع حربٍ كهذه، ولا حتى لخارطة التحالفات المؤكّدة، أو الانحيازات الممكنة.
كلّ المؤشّرات والمعلومات التي وردت في تقارير لموقع "فوكس نيوز" تحتاج إلى تدقيق كبير.
فمن ناحية ليست "فوكس نيوز" كموقع ولا حتى كوكالة أنباء من الجهات الموثوقة في معلوماتها، ولا استهدافاتها، ولكنها مع ذلك تنفرد أحياناً بمثل هذه المعطيات، ربّما لأسباب سياسية، ولأهداف سياسية محسوبة على "اليمين" الأميركي.
"اليمين" الأميركي على ما يبدو يراهن على توريط بايدن قبل الانتخابات، أو يستهدف إرباك هذه الإدارة الحالية، التي تبدو في قمّة الإرباك على كلّ حال.
وربّما أنّ أوساط هذا "اليمين" تريد أن تظهر بايدن على كونه أضعف من القدرة على مواجهة التحدّيات في الشرق الأوسط، على اعتبار أنّه خسر مراهناته وحروبه ضدّ روسيا والصين. هناك لعبة إرباك وإرباك مضاد.
بايدن لا يريد أن يركّز على شيءٍ سوى الشرق الأوسط، وترامب لا يحتاج إلى هذا التركيز لأنّه بحاجةٍ إلى حلّ مشاكله مع روسيا والصين، وحتى مع أوروبا، ولهذا فإنّ المؤشّرات تبقى خطيرة للغاية، وقد يكون الإقليم على حافّة تغيّرات كبيرة لن تحدث من دون حرب كبيرة.