بدا السابع من أكتوبر كيوم يقسم التاريخ في المنطقة إلى ما قبله الذي لن يعد يشبه ما بعده. فقد قامت حركة حماس بعمل كبير جدا هو أشبه بزلزال أحدث هزة كبيرة للجيش الإسرائيلي ولدولة إسرائيل واقترب من المساس بفكرة وجودها، وعلى الجانب الآخر كانت ارتدادات تلك الهزة مدمرة لغزة بشكل لم يتصوره الذين قاموا بتلك العملية، فالحرب الشرسة التي شنتها إسرائيل المجروحة تسببت بدمار غزة وإعدام الحياة فيها ونزوح أهلها وتجويعهم وقتل عشرات الآلاف وأكثر من ضعفهم من الجرحى.
لم تكن حركة حماس تقدم على هذا العمل الكبير لو كانت تدرك أن نتيجته ستكون قراراً أميركياً إسرائيلياً بإنهاء حكمها لقطاع غزة، وشن حرب مكلفة على قوتها المسلحة.
لكنها ربما اعتقدت أن إسرائيل ستشن حرباً كالحروب السابقة تنتهي بتهدئة وصفقة تبادل كبيرة، وقد تمكن حركة حماس من وضع شروط تساعد على تغيير الواقع والحصار المفروض على القطاع. وهذه واحدة من أخطاء السياسة التي يقع بها الكثيرون ممن لا يقرؤون الواقع بدقة، فالسياسة كائن حي يتغير يوميا وما يصلح في تجربة لا يصلح لغيرها، فلكل واحدة فرادتها ودرجة حرارتها وأجواؤها النفسية التي تؤثر على مستوى القرار والفعل وردة الفعل.
ينشأ جدل كبير في الساحة الفلسطينية حول العملية التي استدعت كل هذا الثمن الذي لم ينتهِ بتدمير غزة وبنيتها التحتية وجعلها غير صالحة للحياة، بل تهجير أهلها وعودة الاحتلال الإسرائيلي لغزة بعد أن تفاخرت الحركة لسنوات بأنها أخرجته بالقوة من القطاع وتمكنت من تحريره ودحره مهزوما.
هذا المنطق يتمسك به المعارضون للعملية وهم أغلبية سكان قطاع غزة الذين دفعوا الثمن الكبير من أبنائهم وبيوتهم وأصبحوا نازحين وجوعى متروكين لعصابات من اللصوص وتجار الحروب.
وعلى الجانب الآخر يرد المؤيدون لما حدث بأن الشعب الفلسطيني يمر بمرحلة تحرر وطني، وهذه المرحلة كانت على امتداد التاريخ تدفع فيها الشعوب الواقعة تحت الاحتلال أثمانا كبيرة لحريتها وأن إسرائيل لم تكن تحتاج إلى مبرر لسحق الشعب الفلسطيني وشن الحروب المتواصلة ضده فإسرائيل لم تتوقف عن القتل.
وفي إحدى المرافعات ضد الرأي الآخر الإشارة لتجربة الضفة وهل يمكن أن يكون مسارها بديلا وأن إسرائيل تنهب الأرض وتجتاح المخيمات، ولا يمكن أن يكون بديل شعب تحت الاحتلال هو التعاون معه. هذا الرأي يدافع به مؤيدو حماس في غزة ومن غيرهم من خارج غزة من متفرجين ومحللين.
لا يمكن لكل المبررات أن تغطي على فداحة الثمن، ولا يمكن لعملية مهما بلغ حجمها أن تنتهي بتدمير منطقة كبيرة بهذا الشكل أن تكون قد تم إجراء حساباتها بشكل دقيق سياسياً، وأن الإشارة لبديل العملية هو حالة استسلام يعكس سذاجة سياسية أحادية لا تصلح لممارسة السياسة، بل تشكل خطراً على الشعب الذي تديره لأنها نظرة أحادية قاصرة لا ترى السياسة سوى باللونين الأسود والأبيض، وهي نظرة لا تصلح للحكم على السياسة باعتبارها كائنا حيا وكل فعل فيها يحتاج إلى حسابات متفردة، فالقوالب الجامدة تصلح لهواة السياسة والمبتدئين أما محترفوها فتتسع لديهم الخيارات.
هنا الفارق بين من يمارس السياسة بالنقل وبين من يمارسها بالعقل، من يمارسها بذكاء وبين من يمارسها بتقليد، فالإبداع هو لعبة السياسة والمقاومة، وممنوع أن تغيب الحسابات الدقيقة لأن غيابها للحظة يعني انقلاب النجاح والقطع مع السياق التراكمي للإنجازات السابقة بل وتبديدها، فلا ينبغي لمعركة تجرح فيها خصمك أن تنتهي بتدميرك لأنك تكون قد هزمت نفسك.
من حق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال مقاومة محتليها وبكل الوسائل، هذا كفلته القوانين الدولية وقوانين الطبيعة قبلها لكن كل فعل يحتاج إلى حسابات دقيقة للربح والخسارة والكلفة والثمن. وحين يكون ثمن الفعل أكبر من قيمته يجب إعادة الحسابات فالشعوب تحررت بفعل طويل ومتراكم وليس بالضربة القاضية كما قال الأمين العام لحزب الله في خطابه الأول كأنه يوجه نقداً هادئاً لحركة حماس وقالها في مراحل سابقة الأمين العام الأسبق للجبهة الشعبية جورج حبش بأن المعركة طويلة متهما المستعجلين بقصيري النفس، طالباً منهم أن يتنحوا جانباً حتى لا يستدعوا هزائم هي أخطر ما يمكن أن تحدث للشعوب المحتلة في مشوارها الكفاحي فليس لديها ترف الهزيمة.
صحيح أن إسرائيل دولة احتلال ولا تحتاج إلى مبرر لاستمرار قتل الشعب الفلسطيني، ولكن عندما يرتفع مستوى القتال أكثر من حده فإن العالم الذي يشكل كابحاً في مراحل عديدة يتحول إلى دافع وداعم للإبادة واقتلاع المنطقة وحينها تنفتح شهية إسرائيل وسط هذه المناخات لإخراج كل المشاريع القديمة من الأدراج تحت غطاء الغبار المنبعث لتستدرك ما نسيته في النكبة، وهو ما تفعله الآن في غزة من إعدام للحياة وجعله غير صالح لها فلا تعليم ولا بنية تحتية لتبحث الناس عن بدائل خارجه، وها هي تعيد احتلاله من جديد وتتحدث عن السيطرة لسنوات واقتطاع جزء منه بعد كل هذا العدد من الشهداء والجرحى وإبادة البيوت.