.. والأصحّ أن نقول: التي ما زالت خفيّة.
الحرب التي تشنّها إسرائيل على الشعب الفلسطيني تجاوزت منذ ساعاتها الأولى أن تكون حرباً على حركة «حماس»، أو على فصائل قطاع غزّة، وكانت وما زالت جزءاً من حربٍ جارفة ضدّ هذا الشعب في الضفة الغربية قبل أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل الماضي، وكانت وما زالت تدور رحاها منذ أن تحوّل الصراع من دائرة إدارة الصراع إلى دائرة الحسم، وبكافّة السُّبُل والوسائل، الاستيطانية والتهويدية، والتنكيل والقمع وتحويل حياة الفلسطينيين إلى جحيم لا يُطاق حصاراً وقمعاً وتشريداً في بعض المناطق الخاصة من جنوب الضفة وفي الأغوار الفلسطينية وصولاً إلى حرب الإبادة الشاملة التي تقوم بها دولة الاحتلال ضدّ القطاع.
حسم الصراع من وجهة نظر إسرائيل بمعظم قواها السياسية النافذة والمتنفّذة، العنصرية والمتطرّفة، والعنصرية الفاشيّة، العلمانية والدينية و»القومية»، الوسطية والمعتدلة وحتّى التي تَلبس ثوب العقلانية والليبرالية.
حسم الصراع كان يعني أنّ الحرب على الضفة ستستمرّ بكلّ اندفاع وتسارع وتصاعد، تماماً كما كان يُعنى أن نصيب القطاع من هذه الحرب كان آتياً لا محالة، حتى ولو أنّ دولة الاحتلال كانت تفكّر بتأجيل أو إرجاء الحرب عليه لمراحل لاحقة لاعتبارات تتعلّق برهانات معيّنة، وطموحات معيّنة لدى «اليمين الجديد» في إسرائيل تهدف إلى تعميق الشرخ الفلسطيني، واستثمار حالة الانقسام إلى أطول فترة ممكنة.
«حماس» بادرت عن وعيٍ تام، ودرايةٍ كاملة بهجومها المباغت، والذي هو استباقي بامتياز في محاولة لقلب معادلة حسم الصراع رأساً على عقب، وإعادة خلط الأوراق في كامل الإقليم كلّه فقد أفقد إسرائيل توازنها، وأربك وأرعب الولايات المتحدة، وخلخل كلّ حساباتها التي كانت تعمل عليها قبل هذا الهجوم، ووجد «الغرب» كلّه نفسه وقد أصبح جزءاً من هذه الحرب، وطرفاً مباشراً فيها.
هذه حرب فريدة في التاريخ البشري كلّه في كثير من جوانبها، وفي معطياتها، ومعادلاتها وخصائصها.
وسيظلّ الأدب السياسي، والعسكري، والإستراتيجي لسنوات طويلة قادمة يبحث في هذه الحرب، وفي تلك الخصائص والمعادلات والمعطيات، ولا يستبعد أبداً أن تتحوّل الحرب على القطاع من حيث ما أدّت إليه من تحوّلات، أو من حيث ما أسّست لتحوّلات إلى مرحلة تاريخية خاصة في التطور الحديث للبشرية كلّها، وأُسارع للاجتهاد هنا بأنّ هذه الحرب ستسمّى، وتستحقّ أن تسمّى المعركة الوطنية العظمى إذا لم تسمَّ الحرب الوطنية العظمى لفلسطين.
إذ لم يسبق أن أُلقي ما يعادل أربعة أو خمسة قنابل نووية على مساكن ومربّعات آهلة بالسكّان المدنيين، ولم يسبق مطلقاً أن تحوّلت المدارس والمستشفيات وحضانات الأطفال والجامعات إلى أهداف مباشرة للقصف بالقنابل متعدّدة الأطنان، ولم يسبق أن تستهلك دولة كامل ذخيرتها، وذخيرة أقوى دولة في العالم عسكرياً، وجزءاً من ذخيرة أكبر حلف عسكري في العالم، والذي هو «حلف الناتو» للهجوم على مساحةٍ جغرافية لا تزيد على 100 كم مربّع آهلة بالسكّان المدنيين جلّهم من النساء والأطفال والصبية الصغار.
كما لم يسبق مطلقاً أن تمّت إبادة مثل هؤلاء السكّان بهذه الهمجية، وهذه الساديّة الغرائزيّة المتوحّشة من أعتى قوى العدوان والعنصرية والفاشية التي عرفتها البشرية التي عرفناها.
كيف لدولة الاحتلال أن تُقدِم على كلّ هذه الهمجية، وعلى كلّ هذا التوحُّش وهي «مطمئنّة» أنّها تستطيع أن تقوم بكلّ ما قامت به، وما زالت تقوم؟
وكيف أنّها ذهبت إلى كلّ هذه الحدود في هذه الحرب الهمجية غير آبهةٍ بالنتائج التي يمكن أن تترتّب على هذا القدر من الإجرام الذي اقترفته على الهواء مباشرةً ومن دون أن «يرفّ لها جفن واحد»؟
وهل صحيح أنّ شعورها بالصدمة المروّعة، وفقدها لقدرة الردع، وتشتُّت واندحار قوّاتها هو الذي أدّى بها إلى شنّ هذه الحرب المجنونة والجنونية من على خلفية التهديد الوجودي الذي شعرت به فقط؟
الجوانب الخفيّة، أو بعض هذه الجوانب الخفيّة في هذه الحرب، ربّما يفسّر لنا هذا الجنون الإسرائيلي.
الساعات الأولى بعد الصدمة الإسرائيلية، والاتصالات التي جرت بين قيادة الحرب المصدومة، وربما المرتعشة، أيضاً، هي من تكمن فيها تلك الجوانب الخفيّة في هذه الحرب.
فهل تكون إسرائيل في تلك الساعات قد صوّرت للولايات المتحدة، ولكافة دول «الغرب» المعنية أنّ الأمر يتعلّق بانهيار خطير في الدولة والجيش والمجتمع، وأنّ إسرائيل قد تعرّضت لهزيمةٍ ساحقة أفقدتها توازنها، وأنّها لم تعد قادرة على استعادة تماسكها من دون وقفة أميركية و»غربية» حاسمة لتفادي كارثة لن يتمّ تفاديها سوى بالدعم التام وغير المشروط، وعلى كلّ ما ستقوم به، ومهما كان الثمن، ومهما كانت درجة التدمير والانتقام؟
وهل تلقّت إسرائيل الجواب «الشافي والكافي» على كلّ ذلك حتى تخرج إلى هذه الحرب بهذه الدرجة من «حرّية» الإبادة والقتل والإجرام.
الجواب في أغلب الظنّ نعم.
هذا الجانب عبّرت عنه الولايات المتحدة و»الغرب» بصورةٍ جليّة لا تقبل الشكّ أو الجدل.
لقد تمّ «تضليل» «الغرب» على ما يبدو، ليس من حيث عُمق تأثير ما أحدثه 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل الماضي، ولا من حيث درجة انهيار الجيش والأجهزة الأمنية، ودرجة الرعب الذي أصاب المجتمع، لأنّه لا يُعقل أبداً أن تكون المسألة أقلّ من ذلك.. ولكن أغلب الظنّ أنّ التضليل تناول قضايا أكثر خطورة وحساسية.
ويمكن في مثل هذه الظروف أن تكون إسرائيل قد اشترطت الدعم المطلق لكلّ ما ستقوم به، وإلّا فإنّها ستجتاح الضفة كلّها إضافة إلى تدمير القطاع عن بكرة أبيه، أو أنّها هدّدت بضرب سورية ولبنان في نفس الوقت بالتزامن مع تدمير القطاع واجتياح الضفة، أو ربّما ضرب إيران ضربةً قاصمة وتدمير كلّ مفاعلاتها النووية، أو اللجوء إلى السلاح النووي إذا لزم الأمر.
أمّا بالنسبة للنظام العربي، فإنّه من المؤكّد أنّ إسرائيل قد فهمت أنّ هذا النظام ليس متحمّساً لأيّ انتصار فلسطيني في هذه الحرب، لأنّ مثل هذا الانتصار يتجاوز موقع وموقف النظام العربي الذي يرغب في الوصول إلى حلّ سياسي كنتيجة من نتائج هذه الحرب، ولكنه يرغب في أن يكون الحلّ من موقع الخضوع الفلسطيني لشروط هذا النظام، والشروط الأميركية المهيمنة على الإقليم، وليس من موقع الانتصار، وفرض شروطه الوطنية عليه، وعلى إسرائيل.
فإمّا أن يكون النظام العربي قد توافق مع إسرائيل على هذا الفهم، أو أنّه قد تمّ ضمناً، أو أنّ إسرائيل إضافةً إلى كلّ ذلك قد هدّدت بأنّها ستستخدم أعلى درجات القوة ضد كل من سيفكر بوقف حربها المدمّرة على القطاع.
على كلّ حال الأيّام هي التي ستكشف تلك الجوانب الخفيّة من جنون هذه الحرب.
من حيث المنطق لا يوجد تفسير عقلاني قادر على توضيح بعض جوانب هذه الحرب، خاصة عجز وفشل النظام العربي بالدفاع عن الشعب الفلسطيني، وفشله في إجبار إسرائيل على منع الإبادة، ومنع التجويع، ومنع التدمير.
فهل كانت قضايا الإبادة والتجويع، أو تحوّلت إلى تحصيل حاصل لعجز وفشل هذا النظام؟
دعونا ننتظر إلى أن تتكشّف وتنكشف الحقائق التي ما زالت طيّ السرّية والكُتمان.