في النظر للعدوان الصهيوني على فلسطين، والإبادة الجماعية من رئتها الجنوبية أساسًا في قطاع غزة، ترى العالم ما بين عنصري داعم بعمى لا مثيل له، أومتغافل عن نتائج العدوان التدميرية على الشعب الفلسطيني.
تجد المتواطيء الخائف والخانغ مقابل المنتفض والثائر على هذه الحرب التي طالت الحجر والبشر والشجروالعقل.
وتجد الانسان الحائر بين ماكان وما يعيشه الآن وبين المستقبل الغامض!
لقد طال العدوان والتطهير العرقي والإبادة الصهيونية كل شيء تقريبًا، ومنه ما طال كافة المراكز الثقافية والجامعات والمراكز التعليمية، وكأن العداء الصهيوني للبشر يقصد قتل الناس مباشرة أو إعاقته، ولمن يتبقى بالصدفة إغلاق الأمل أمامهم كليًا بتدمير كل مقومات حياتهم الحضارية المادية منها والثقافية الروحية.
سرق الاحتلال الصهيوني كل الوثائق الفلسطينية أثناء حرب النكبة عام 1948 وقام بسرقة وثائق منظمة التحرير الفلسطينية عام 1982 من بيروت، ويقوم اليوم ليس فقط بسرقة الوثائق وإنما بتدمير المراكز ذاتها في قطاع غزة.
لم تتورع دولة الاحتلال ومؤسساتها أيضًا عن إبادة البشر والمكان وصولًا الى تصفية المراكز الثقافية والتعليمية والحضارية في غزة لما لكل ذلك من ارتباط نفسي للانسان.
تقول د.مايا ويند، أستاذة علم الانسان "الأنثروبولوجيا" بجامعة كولومبيا الأمريكية أن: "الجامعات الإسرائيلية متورطة بعمق في التطهير العرقي للفلسطينيين، ضمن مشروع قديم للدولة الإسرائيلية يهدف للقضاء على الفلسطينيين واستبدالهم باليهـود. "إسرائيل" دمرت كل جامعة فلسطينية في قطاع غزة، وهي لا ترتكب إبادة جماعية فحسب، بل إبادة علمية أيضا". نعم إنها إبادة بشرية ومادية وثقافية مقصودة.
الدمار البيئي المادي، ومسلسل القتل، والإبادة الثقافية الحضارية في غزة جعل الجامعات المحترمة في مختلف دول العالم الغربي تثور ضد العدوان الصهيوني الفاشي، ولم تسكت في عديد البلدان ومنها أمريكا حتى أضحى دعم فلسطين، ورفع علم فلسطين وشارة النصر لياسر عرفات، ومقاطعة "إسرائيل" اقتصاديا وثقافيا مطلبًا عامًا لايحتاج لكثير من الاثباتات ليظهر الأسباب، فهي تُضخ يوميًا ضمن سيل الصور المباشرة في الإعلام التقليدي وفي وسائط التواصل الاجتماعي.
التدمير المادي البنيوي لقطاع غزة بمبانيها وشوارعها ومجاريها وهوائها... وتلويث أرضها فوق الأرض وتحتها هو ما سيجعل الإقامة فيها لاحقًا غير ممكنة للبشر! خاصة في ظل التلكؤ أو التعطيل المتوقع في مسار الحل ثم الإعمار.
إن مطالب عودة النازحين الفلسطينيين بغزة من الجنوب الى الشمال لن تعني شيئًا للعائد الذي سيُصدم صدمة غمره، فيهتز كل كيانه فإما ينفجر بكاءً او يكظم وقد يموت كمدًا.
إنه عند عودته لن يرى بيئته المادية مطلقًا كما كانت، فلقد هُدمت وبعضها على من فيها. كما سيفقد بفقدانها المادي كثيرًا من محفّزات المشاعر والذكريات المرتبطة بالمعالم (أبنية، أرصفة، شوارع، أشخاص، مؤسسات، جامعات، مساجد، دكاكين...الخ)، فتصبح المشاهد المادية المتغيرة كليًا على الأرض فاقدة لقيمتها المعنوية السابقة، فيتوه الانسان ويرتبك ويحتار!
مع سحق العدوان لكل مظاهر الحياة المادية في قطاع غزة، إضافة للإبادة الجماعية للناس، يفقد الانسان الكثير من ذاته، وروحه، المرتبطة بالأشياء، ومنها أنه يفقد عامل الاحساس بالاستقرار والتحفيز والشعور بالانتماء للمكان.
مع الدمار البشري ودمار المكان ومراكزه الثقافية ومعالمه الحضارية لا يتبقى للعائد سوى مخزن الذكريات في دماغة، غزة الحقيقية في دماغه وليس ما يراه بعينيه! بمعنى أنه يستطيع أن يفتح مخزن ذكرياته من دماغه في أي مكان، فلا أفضلية لمكان على آخر!
عند الفلسطيني من غزة خاصة أصبحت غزة بلا معالم مادية أو ثقافية أو روحية أو بشر فأضحت كغيرها من الامكنة!؟
عندما يفقد الأهل والمكان والمعالم الحضارية المرتبطة تصبح سبل العيش المادي والنفسي-الروحي للفلسطيني في حالة حطام وربما اغتراب، وعليه تصبح الهجرة (المسماة الطوعية) مطلبًا أساسيًا، لاسيما وأنه خلال شهور الحرب الستة حتى الآن قد هاجر خارج قطاع غزة ما يقارب 100 ألف مواطن فلسطيني حسب المصادر الإسرائيلية.
دعني أعرض لك ما قد يقول الفلسطيني الغزّي لنفسه حين يرى الدمارالهائل بسبب التدمير الصهيوني الممنهج، يقول لنفسه: ما الفرق بين غزة الآن، غزة الكارثة وحيث لا بشر ولا أهل ولا بيت ولا معالم ولا عمل ولا أمل، وبين غيرها في العالم مادام الصندوق المخزون الممتليء بالذكريات (صندوق الذكريات) عندي لا يجد له على الأرض -مما كان قبل الكارثة- ما يستثيره أو يحفزه او يقنعه بالبقاء؟!
إن غزة التي أعرفها ماديًا ارتحلت الى الأبد!؟ أما غزة التي أعرفها في صندوقي، صندوق ذكرياتي، فإنني أحمله وأحملها أنّا حللت وأنا ارتحلت! فتتساوى مقومات البقاء مع مقومات الرحيل وربما يختار الرحيل لأن الأمل بالخارج قد يكون أوسع، خاصة إن ظلت غزة تراوح بين الدمار وعدم الإعمار .
إن عملية التدمير المادي للإنسان تأخذ معها السياق الروحي والنفسي المرتبط بالناس ولواعج النفس، وبالمكان بمعنى أن المكان، ومعالم المكان الخاصة وتلك الحضارية الثقافية (وترابطاتها الذاتية لكل شخص) التي تشكل الجاذب والحافز والدافع والمؤثربالثبات، تفقد تأثيرها بالنفس مرتبطة بالشعور بالقهروالألم وقلة الحيلة.
ومن هنا فإننا نناشد كل القوى السياسية والثقافية والاقتصادية والنفسية، والمجتمعية أن تتكاتف معًا، وتشكل مجموعات عمل خاصة، لتجعل من غزة القادمة محققة لعنصر الثبات للفلسطيني على أرضه، وألا تشكل فيما أوضحناه سببًا للتقبل الذاتي النفسي لعملية النزوح او الهجرة (الطوعية)، وكل ذلك في رقبة القائد السياسي الذي لم ينتبه لعمق الكارثة والدمار الإبادة بما فيها الثقافية والنفسية التي فاقت النكبة الأولى، ولم ينتبه لعنصر الناس والثبات، وذلك في تفكيره المحدود بحثًا عن نصر شكلي!